ماذا تخبرنا القطع الأثرية القبطية عن المرأة في مصر القديمة| الجزء الأول

الاثنين ١٠ فبراير ٢٠٢٠                   – كتبت: د. إنجي حنا

81890145_512020912754388_1512541289554378752_nزعم العديد من علماء النفس ان اختيارات الأفراد لما يرتدونه يبعث برسائل اجتماعية تعبر عن شخصياتهم. فهل تخبرنا تصاوير النساء في الفنون القديمة قصص عن حياتهن.. هويتهن، ثقافتهن، او أحلامهن؟ عن اسرار اختفت بين طيات المخطوطات العتيقة او اغفلها المؤرخون الرجال؟

ان تأمل صور النساء على الفنون المصرية القبطية قد يقدم اجابة مثيره لهذا السؤال.

83042054_2779970902097339_5316386204902490112_nعاش نساء مصر القبطية في القرون الاولى في عالم تسوده تيارات فكرية متنوعة – متناقضة في كثير من الأحيان (ايديولوجيات دينية وفلسفية وشعبية وأخرى ناتجة عن التفاعل الحضاري مع الأقاليم الأجنبية).. مجتمع شهد امتداد لموروثات كلاسيكية (مصرية قديمة ويونانية ورومانية) صدرت في مجملها ثقافة ذكورية، صورت المرأة أضعف احيانا وأدني احيانا.. وقانون روماني (خضعت له مصر باعتبارها أحد أقاليم الإمبراطورية الرومانية والبيزنطية) جرد النساء من حقوقهن في اعتلاء المناصب الادارية، نظريًا ضمن حقوق عامة النساء في حماية أرواحهن وممتلكاتهن طالما التزمن بأعراف المجتمع المصري (المشابه لسائر المجتمعات الرومانية الشرقية في ذلك الوقت) ومفاهيمه عن الشرف والعار.. من جهة اخرى شهد المجتمع انتشار ديانة جديدة تسمو بالمرأة وتنادي بالكمال الروحي، ثقافة عظمت من نموذج المرأة التقية القادرة على منافسة الرجال في أقصى درجات النسك والروحانية.. وتيار عالمي نامي يروج لما يسمى ب “اوكوميني” او العالم الواحد يربط أوصال الإمبراطورية البيزنطية المتباعدة ويصدر الى مصر اذواق وافكار مقبولة تارة ومرفوضة تارة أخرى.

هكذا ترجم الفنان القبطي نتاج تفاعل كل هذه العوامل في تصويره للمرأة على جدران المقابر والكنائس والستائر والحلي والملابس.. أخبرت ريشته و مغزله و نوله قصاصات مبعثره من حكايات منسية.

83886754_771294796693725_3977951671073374208_nحكايتنا الاولى ثيؤدوثيا – سيدة من أسرة يونانية عريقة سكنت مدينة قبطية قديمة بصعيد مصر معروفة الان بالشيخ عبادة بملوي محافظة المنيا – صورها الفنان القبطي و هي مرتدية تيونيك (رداء شعبي شائع منذ العصر الروماني) من الكتان الفاخر المطرز بخيوط الصوف، يصل أطرافه الى القدمين و يغطي الذراعين؛ على رأسها و كتفيها يغطيها شال شفاف من الحرير، ربما كان هذا الشال انصياعا لتعاليم بعض اباء الكنسية مثل الانبا بسنتئوس اسقف قفط في القرن السادس، ربما كان رمز لرباط الزواج المقدس حيث كانت ترتديه السيدات المتزوجات رمزًا للعفة و الإخلاص لأزواجهن على غرار زوجة كاهن معبد الاله جوبيتر .

أسفل هذا الشال تبرز تصفيفة شعر مميزه خصلات شعر متراصة في صفوف واحدة تعلو الأخرى. لم تكن مجرد تصفيفة شعر بل احد مظاهر التمدن و مواكبة ذوق نساء البلاط الإمبراطوري (الروماني ثم البيزنطي) حيث انها مستوحاه من تصفيفات شعر نساء السلالة الفلافية الحاكمة ( اباطرة روما في أواخر القرن الاول الميلادي)، ربما انتشرت في ربوع الإمبراطورية – منها مصر – عن طريق صور زوجات الأباطرة على العملات المعدنية او تماثيلهن المعروضة في الساحات العامة، كانت هذه التصفيفة رائجة بين النساء الثرية في جميع أنحاء الإمبراطورية في القرنين الخامس و السادس الميلادي حيث علق القديس و الشاعر بولينوس اسقف نولا على ولع النساء بها في زمانه، كذلك سخر منها المؤرخ الروماني الساخر جوفينال قائلا :”عندما تنظر الى امرأة من الأمام تراها طويلة اما من الخلف فهي ليست كذلك حتى انك قد تظن انها ليست ذات المرأة”

باختصار.. يمكنا ان نزعم ان الفنان القبطي اراد ان يبرز معاني ضمنية من خلال مظهر ثيؤدوسيا : الحشمة ..الخضوع لأعراف المجتمع .. الثراء.. مواكبة روح العصر.. مظهر لا يشير لشخص بعينه بقدر انه عبر عن الشكل النمطي لعامة نساء الطبقة العليا.. نساء اخترن ان يخضعن لتعاليم الكنيسة التي نادت بحشمة النساء (كما عرفها المجتمع حينها بتغطية الجسد والرأس).. نساء عبرن عن قوتهن الاجتماعية بلغة الكتان الفاخر وتكنيك التطريز النادر الذي لم يستطع تحمل تكلفته الا قله من ميسوري الحال.. نساء وجدن في التشبه بزوجات الأباطرة اشاره لانتمائهن لطبقة مميزه اجتماعيا

 إذن ماذا عن طبقات النساء الأخرى.. الراهبات.. النساء المثقفات.. الراقصات.. الغانيات؟ هذا ما سنعرضه لاحقًا في مقالي المقبل…

83077852_871663743263975_8868534874084999168_nد. انجي حنا مدرس الآثار والفنون القبطية بجامعة المنيا. أكملت د. إنجى حنا شهادة الدكتوراه في تاريخ الفن في جامعة ساسكس عام 2017. وتكرس أبحاثها في مجال تاريخ الفن البيزنطي المبكر، وبالتحديد التاريخ الاجتماعي والفن العلماني والنوع الجنسي والإدراك الحسي. كان لها تعاونا مكثفا مع أعضاء هيئة التدريس بجامعة ساسكس. وقد صممت ونفذت دورات حول الفن القبطي، والفن المسيحي المبكر، وتاريخ الفن البيزنطي في مصر والمملكة المتحدة. كتابها “المرأة في مصر القديمة من خلال الفن القبطي” سيعرض قريبا في المكتبات.

** إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني

1 comments

أضف تعليق