هالة غنيم، تتحايل علي عائلتها للسفر للدراسة في أمريكا

السبت ٣٠ مايو ٢٠٢٠            كتبت – هالة غنيم

هالة غنيم باحثة لنيل درجة الدكتوراه في ألمانيا، ومُحاضِرة في جامعات أوروبا – رفضت عائلتها سفرها لإتمام الدراسة الجامعية بأمريكا فأخبرتهم بضرورة سفرها إلى دمشق لمدة أسبوع لكتابة بحث عن المسجد الأموي لجامعة الفيوم
100818405_4562130423813077_1178331145310306304_n
هالة غنيم

ولدت في قرية صغيرة في المنوفية، ولدت لأب وأم من عائلتين على الرغم من اختلاف أيديولوجيتهم الفكرية والسياسية، فإنهم كانوا مؤمنين تمامًا أن المولود الذكر له كل الحقوق، لأنه سيحمل اسم الأب والعائلة. كنا ثلاث بنات وأخ وحيد.

أبي خريج جامعة الأزهر، عمل مدرس لغة عربية وباحث في العلوم الدينية.. كان أخي الكبير ملازمًا لأبي حتى يعده ليصبح (راجل البيت).. كان يصطحبه في كل مكان، لكنه يختارني أنا لحضور مجالس العلم التي كان يتبادل فيها مع زملائله قراءة كتب دينية ودواوين الشعر والكتب الأدبية. لم أكن تجاوزت حينها ساعتها الخامسة أو السادسة من عمري. كان أبي يشتري لي كتب ومجلات كثيرة، ونادرًا ما أهداني اللعب أو الحلوى.

كنت أحب سير مارجريت تاشر وإيفا بيرون، وكان مثلي الأعلى السيدة جيهان السادات. تنبأ أبي لي أني سأصبح دكتورة، لكنني كنت أحب الرسم والنحت.. وأخبرته برغبتي فى أن أكون دكتورة في الفن أو الهندسة المعمارية، كان يضحك ويقول: “في لندن أو واشنطن.. حتى تصلي للعالمية…”.

توفي أبي وأنا فى السابعة من عمري، وقبل وفاته بفترة قال لي عبارة لن أنساها أبدًا ما حييت؛ “حياتك هتتحاسبي عليها لوحدك..لو أنا مشيت أنا عارف إن ربنا راسم لك الطريق فما تختاريش شيء أقل من اللي تحسي إن ربنا خلقك عشانه..اسمعي لقلبك بس”. بعد فترة قصيرة لحقت أمي بأبي! التي كانت دائمًا تدعو لي”يا رب تحققي حلمنا فيكي..”.

انتقلت أنا وإخوتي للعيش مع عائلة أبي. وبالطبع كوني يتيمة الأبوين في قرية صغيرة، جعل مصيري معروفًا؛ (تكبر شوية ونجوزها حد يشيل همها). كلما أخبرت زملائي في المدرسة بأنني سأتم دراستي في إحدى جامعات أمريكا أو أوروبا، ضحكوا وسخروا مني؛ بل واتهموني بالشطط والجنون (مش معنى أنك الأولى علينا كل سنة أنك هتسافري بره)!!

كل شيء من حولي كان يقول إن هذه الفكرة

مستحيلة؛ فتقاليد البلد لا تسمح، ولا أحوالنا المادية، ولا يمكن يوافق أهلي، الذين رفضوا أن ألتحق بمدرسة المتفوقين في القاهرة بعد ما صار اسمي ضمن قائمة أوائل الإدارة التعليمية.

في السنة الثانية من الثانوية العامة أتيحت لي فرصة السفر إلى فرنسا في منحة، لكنهم بالطبع رفضوا، لكن أكثر ما آلمني رفضهم دخولي كلية الفنون الجميل. وخيروني بين الالتحاق بكلية العلوم أو التربية بجامعة المنوفية وبين المكوث في البيت وإنهاء رحلتي التعليمية.

درست فصل دراسي واحد في كلية العلوم.. بكيت كثيرًا ..كنت أتقدم لمسابقات الكلية الفنية وأحصد الجوائز. أشاد بي أساتذتي في كلية علوم، ولاحظوا عدم رغبتي في الاستمرار بدراسة العلوم.

بعد ذلك وبمساعدة خالتي باعتبارها وصية شرعية حاولت أن أنتقل لأقرب كلية لفنون جميلة، لكن الكلية رفضت قبولي لأني كنت محولة من كلية غير ذات صلة.. فالتحقت بكلية الآثار جامعة القاهرة فرع الفيوم.. وبعد عام تسلمت خطاب ترشيح من شئون الطلاب لدخول اختبار وزارة الخارجية الأمريكية للحصول على منحة فولبرايت لنيل درجة البكالوريوس من أمريكا. لكني لم أتقدم بملئ الاستمارة لمعرفتي بموقف أهلي ورفضهم.. لكن إحدى زميلاتي أحضرت لي نسخة من الاستمارة، وقالت لي: “إذا هالة لم تسافر.. من سيسافر إذًا؟!”…

بالفعل حصلت علي المنحة، وكنت الوحيدة التي وقع الاختيار عليها من الفيوم ضمن أحد عشر مصريًا سافروا في هذا العام من أصل ٣٠٠٠ متقدم. شعرت بخوف شديد من السفر، وظلت الخطوة الأصعب إقناع أهلي لأبي. حتى يوافقوا اضطررت للجوء لحيلة السفر إلى دمشق أسبوع لعمل بحث عن المسجد الأموي في رحلة تنظمها الكلية الكلية، على الرغم من أننى كنت أدرس ترميم الآثار ولم أكن أدرس فى قسم الآثار الإسلامية. كانت خالتي وأختي على علم بحقيقة الأمر، وبالطبع لم أعد بعد أسبوع من سفري!

سافرت إلى أمريكا وألتحقت بجامعة روجر ويليامز، وتخصصت في تاريخ الفن وحفظ التراث.. في البداية كنت أشعر بخوف شديد بسبب عدم إتقاني للغة الإنجليزية. لكن مشرفي الأكاديمي للبكالوريوس نصحني بمواجهة خوفي. كذلك تنبأ لي بالتدريس في المستقبل إحدى جامعات أمريكا أو أوروبا.. وكان أول تحدي لي في السنه الدراسية الثالثة، ونجحت أن أكون ضمن ثلاثة طلاب اختارتهم قناة سي سبان الإخبارية الأمريكية كي أقوم بعمل حوار مع السيناتور الأمريكي جاك ريد عن حرب العراق.

بعد التخرج حصلت على منحة أخرى من جامعة هاواى لنيل درجة الماجستير في تاريخ الفن وحفظ التراث الثقافي. أخبرتني مشرفتي الأكاديمية في هاواي بأن سبب وقوع اختيارها عليَّ أن كل كلمة في سيرتي الذاتية توحي بأنني محاربة، حتى في اختيار موضوع البحث (التراث الثقافي لمسلمي الصين) الذي تطلب مني أن أدرس اللغة الصينية.

منذ العام الأول بدأت باعتباري محاضرة في الجامعة، وفي السنة الأخيرة في الماجستير، قامت الجامعة بتعييني بشكل استثنائي مديرًا لبرنامج دبلومة الدراسات الدولية والثقافية العليا. وهذا منصب كان يحصل عليه فقط الحاصلين على درجة الدكتوراه. تم تكريمي من قبل الجامعة أكثر من مرة. كما حصلت على العديد من الجوائز ورسالة الماجستير أخذت توصية باالنشر والترجمة، ونشرت مرتين في ٢٠١٥ باللغة الإنجليزية دوليًا، ومحليًا في معرض القاهرة الدولي للكتاب.

تمنيت أن يشاركني أبي وأمي فرحة يوم التخرج، لكن أساتذتي أحاطوني. ورئيس قسم الدراسات الشرقية في الجامعة قال لي: “سأشعر بالفخر لأن تكوني ابنتي. أعرف أن أباكِ كان سيشعر بالفخر بك اليوم”.

أرسلت لي شرطة هاواي باقة من الزهور.. بعدما عانوا معي كثيرا طول فترة الدراسة بسبب حبي للمذاكرة على شاطئ البحر.. فكانوا يظنون أنها محاولة للانتحار فلم يكن يرتاد الطلاب البحر فى هذه المنطقة التى كنت اخلد اليها بسبب ارتفاع الماء نتيجة المد.

الحمد لله أصبحت في السنة الأخيرة في الدكتوراة. في جامعة فيليبس – ماربرج بألمانيا، وأعمل محاضرة لتاريخ الفن السياسي. ولدي بعض الطلاب من مصر. أعمل كذلك منسقة مشروع “التراث الثقافي في العالم الرقمي الذي ترعاه منظمة التبادل الأكاديمي الألمانية، وتدعمه قيادات وزارة الثقافة المصرية.

هذا المشروع كان مقترحي ومشرفي الأكاديمي آمن به. سفارتنا في برلين استضافت الحدث الختامي للجولة الأولى منه في ٢٠١٩. والجولة الثانية استضافتها وزارة الثقافة بدعم من المجلس الأعلى للثقافة في مصر في فبراير الماضي.

بالمناسبة لقد حاضرت في عدة جامعات في لندن وباريس وجامعة فيينا الوطنية كما حلمت.لكن الطريق لا يزال طويلاً وأنا على أعتاب حلمي. دعواتكم.

** إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني

أضف تعليق