هيباتيا: العالمة السكندرية وآخر علماء جامعة الاسكندرية القديمة | د. دعاء بهي الدين

السبت ٢٠ يونيو ٢٠٢٠                   ـ كتبت: دعاء بهي الدين

EB20100721REVIEWS100729996AR
Via: Agora 

مواطنة سكندرية، جميلة، مثقفة، عالمة رياضيات وفلك، فيلسوفة، مُعلمة ملهمة، صاحبة اختراعات، متبحرة في علم النحو والبلاغة، دمثة الخلق، وفي نهاية المطاف ضحية لعملية قتل وحشي، كان ذلك سبباً فى خلود اسطورتها، لتستمر هيباتيا في إثارة السحر ملهمة للكتاب والشعراء والدارسين وصناع السينما وغيرهم حتى يومنا هذا، وبعد اكثر من 1600 عام من مقتلها.

Picture1.هي الفيلسوفة السكندرية ذات الاصول اليونانية، ولدت في الاسكندرية النصف الثاني من القرن الرابع الميلادي؛ اشارت معظم المصادر الى انها ولدت في 370م، وهي إبنة ثيون آخر علماء الرياضيات والفلك بالموسيون (جامعة الاسكندرية القديمة) وهو معلمها الاول، وقد حظيت بدعمه الكامل حتى أصبحت أول امرأة عرفها التاريخ كعالمة رياضيات. جمعت في دراستها بين عدة علوم متباينة، تعدت شهرتها حدود البحر المتوسط، تطلع اليها طلاب العلم من شتى بقاع الارض كي ينهلوا من علمها، وقبل ان تبلغ العشرين تولت عمل والدها والقت محاضرات حول علم الفلك والرياضيات والبلاغة. 

عرفت في معظم المصادر التاريخية أو “Hypatia of Alexandria” وهيباتيا هو اسم  يونانىΥπατία  بمعنى الراقية أو السامية. وقد جاء تعريفها في دائرة المعارف البريطانية بأنها “فيلسوفة مصرية وعالمة في الرياضيات. 

كان لنشأتها في مدينة الاسكندرية اثره الواضح عليها، حيث كانت المدينة حينها عاصمة العالم القديم وأهم مدنه؛ وكان يقصدها الناس من شتى بقاع الارض لزيارتها ومشاهدة معالمها البارزة وللتعلم في جامعتها ومكتبتها التي أسسها البطالمة الآوائل خلفاء الاسكندر الأكبر. اتسع تأثير ونفوذ هيباتيا كثيراً ليتعدى حدود مدينة الأسكندرية، وقد عُرف ذلك من خلال الخطابات المتبادلة بين تلاميذها ومريديها، وكانت محاضراتها تجذب طلاب العلم من شتى انحاء الامبراطورية الرومانية.

لم تكتفِ بالتعليم الذي تلقته من والدها، بل إستعانت بمصادرأخرى للمعرفة.  كانت مولعة بالعلوم عامة وبعلم الفلك خاصة، ودفعها شغفها به الى التعمق فيه، و استخدام وسائل وأدوات لفحص وقياس الأجرام السماوية.

agora_2009_8
Via: Agora 

قررت السفر إلي أثينا للتعمق في دراستها عندما ساورتها الشكوك بأنها ربما سوف تصبح نسخة مكررة من ابيها، رغبت دراسة علوم أخرى كالفلسفة، والتي كانت دراستها قاصرة في تلك الآونة على الرجال فقط. لم يكن من المألوف وقتها تقبُّل فكرة أن تعمل إمرأة بالفلسفة، الا ان دعم ابيها لها كان له الدور الاكبر في تشكيل وجدانها وفكرها. وأمضت عدة أشهر في أثينا حيث مكنها ذكاءها ومستوى تعليمها وفصاحتها من التعرف على ابرز العلماء، ثم منها الى روما ومدن إيطالية أخرى، وقد قامت بتقديم محاضرات في علم الرياضيات والفلك على الرغم من انها لم تمتلك لقب او شهرة ولكنها عوملت كأميرة تتنقل بين المدن.

وقال عنها المؤرخ الكنسي سقراط الدارس  Socrates Scholasticus في كتابه “تاريخ الكنيسة”: “كان في الإسكندرية امرأة تدعى هيباتيا ابنة الفيلسوف ثيون، بارعة في تحصيل كل العلوم ما جعلها تتفوق على كل الفلاسفة المعاصرين لها، فكانت تقدم تفسيراتها وشروحاتها الفلسفية، خاصة فلسفة أفلاطون لمريديها الذين قدموا من كل المناطق.”

agora-kopya
Via: Agora 

تعمقت في دراسة علم الفلسفة حتى أنها كانت أفضل من يشرح ويعلق على أعمال عظماء الفلاسفة مثل أعمال الفيلسوف اليوناني الكلاسيكي أفلاطون، وأعمال تلميذه أرسطو، وكذلك أفلوطين الذي يعرف في المصادر العربية بـ”الشيخ اليوناني”، والفيلسوف اليوناني هرقليطس، الذي لقب بالفيلسوف الغامض صاحب الألغاز. ولقبت هيباتيا في الخطابات الرسمية التي اشير اليها في المصادر التاريخية  بــ”الفيلسوفة”، و كانت محل تقدير وإعجاب طلابها من المسيحيين واليهود والوثنيون على حد سواء، من بينهم أوريستس الذي أصبح فيما بعد حاكما للإسكندرية، وسينيسيوس الذي كان فيلسوفا افلاطونيا واصبح فيما بعد اسقف قورينة في ليبيا، والذي شهد على ان هيباتيا معلمة قديرة تفوقت بعلمها على الفلاسفة اليونانيون. ومن ثم أصبحت هيباتيا عميدة للمدرسة الأفلاطونية المحدثة في نهاية القرن الرابع الميلادي ، وقد تزامن ذلك مع الاعتراف بالمسيحية ديانة رسمية للامبراطورية البيزنطية.

وقد فاقت شهرة هيباتيا في ذلك الوقت أعظم الرجال، حتى تفوقت على والدها فى الشهرة والنفوذ، وأضحت من أهم مستشاري البلاط الملكي، وحظت باحترام غير مسبوق لم يتسنى لإمرأة فى هذا الزمان، وألهمت خيال الأدباء والشعراء بعلمها وجمالها، وسعى الجميع للتقرب منها وارتبط بها تلاميذها فكريا وأعجبوا بذكائها وعلمها، فضلا عن كونها إمرأة جميلة جدًا فقد غُرم بها الكثير من تلاميذها إلا أنَّها فضلت عدم الزواج ما جعل المجتمع ينظر اليها كمثال للفضيلة، وكان الشاعر السكندري الشهير بالاديس ممن غُرموا بها فكتب يقول:

عندما أراكِ وأسمع كلماتِك
لا أملك من أمري سوى الركوع بين يديكِ
أنتِ كالنجم الذي يسكن السماء
والنجوم بيتها السماء
إن ضوء شعاعك
لا تستطيع سوى السماء تحمله
يا هيباتيا العظيمة
إن كلماتِك هي الجمال والحكمة
وما الجمال والحكمة
سوى نجوم تضيء في السماء

أعمالها

لم يتبقى للاسف اي من مؤلفات هيباتيا والتي ربما تم محوها عن عمد او دمرت عندما احترقت مكتبة الاسكندرية، الا ان هناك العديد من المراجع التي أشارت إلى هيباتيا ساهمت في الحصول على قدر من المعلومات.

agora09
Via: Agora 

ففي البداية اشتركت مع والدها ثيون في تأليف عدة كتب قاما فيها معًا بنقد وتحليل كتاب «العناصر» لإقليدس، وكتاب «المِجَسْطيّ» لكلوديوس بطليموس. لكن انفردت هيباتيا بالتركيز وحدها على مؤلفات أبوللونيوس البرجي حول الأشكال المخروطية، ومكَّنها التعمق في هذا العلم من تقديم تفسيرات جديدة للأهاليج، وهذه التفسيرات كانت ذات أثر بالغ في تقدم شروحات علم الفلك وحركة الكواكب؛ مما جعل العلماء يشيرون الى هيباتيا ضمن الرواد في هذا المجال. ومن هنا يغلب الظن أن الجداول التي وضعتها هيباتيا حول حركة الأجرام السماوية والقوانين الفلكية قد تكون جزءاً من مراجعة ثيون لأعمال إقليدس.

agora-1024x683
Via: Agora 

ويعزي اليها أيضا ما قدمته في علم الجبر، فقد ألفت ثلاثة عشر كتاباً في شرح حساب ديوفانتوس “رائد علم الجبر” وهو العالم الرياضي الذي عاش في القرن الثالث الميلادي في الاسكندرية، كما ألفت هيباتيا عدة ابحاث عن تقويم أبولونيوس؛ وأبولونيوس البرغاوي هو عالم الجبر الذي عاش في الإسكندرية في القرن الثالث ق.م والذي وضع نظرية فلك التدوير والناقل لشرح المدارات غير النظامية للكواكب.

بالإضافة الي ذلك، كانت هيباتيا مهتمةً بعلم الميكانيكا جنباً إلى جنب مع اهتمامها بالرياضيات والفلسفة واحتوت رسائلها إلى سينسيوس على تصاميم لعدة آلاتٍ ومنها الاسطرلاب المستوي والذي كان يستخدم لقياس مواقع النجوم والشمس والقمر ورسم مواقع للأجرام السماوية ولحساب الوقت وعلامات الأبراج. وتشير بعض الدلائل انها اخترعت الإسطرلاب المستوى والهيدروميتر والهيدروسكوب ومقياساً للثقل النوعي للسوائل.

مقتلها

تسبَّب التفاف المثقفين حول هيباتيا في قلق بعض المسيحيين بالاسكندرية، خاصة وأن اتباعها في المدينة قد ازدادوا بشكل ملفت، هذا إضافة لصداقتها بالوالي اوريستوس الذي كان يكن لهيباتيا تقديراً كبيراً وكانت علاقتة متوترة بالكنيسة حتى انه سرت شائعات أن العداء بين الوالي أوريستوس والكنيسة يعود سببه لتأثير هيباتيا على والي المدينة، مما زاد من عداء بعض المسيحيين تجاهها، واتهمها البعض بالالحاد وممارسة السحر والتحريض ضد المسيحية، وفي هذا الصدد استهل البرت هبرد مقاله عن هيباتيا في كتاب عنوان “معلمون عظماء” والذي نشرته جامعة كليفلاند الامريكية بجملة “استطاعت هيباتيا تفريق المجتمع السكندري الى فريقين، أحدهما اعتبرها ملهمة النور بينما اعتبرها الفريق الآخر رسولا للظلام.”

agora-hypatia-death
Via: Agora 

وفي إحدى أيام شهر مارس من عام  415م وأثناء عودتها الى منزلها بعد الانتهاء من محاضراتها، تتبعها مجموعة من الغوغاء وانزلولها عنوة من عربتها التي كانت تجرها الخيول، وجروها من شعرها وسحلوها في شوارع الاسكندرية؛ حتي وصلوا بها إلي شاطئ البحر في محطة الرمل حيث يقع الآن فندق سيسل ، واستخدموا أصداف البحر في سلخ جلدها، إمعاناً في تعذيبها إلى أن صارت جثة هامدة؛ ثم أشعلوا ناراً في كومة من الأخشاب ألقوها فيها، في جريمة قتل وحشية، وأيا ما كان سبب موتها فقد انتصر العلم في النهاية، وبقيت هيباتيا بعلمها وجمالها حية في وجدان الشعوب التي لم تفقد عبق سيرتها، وأحسب أننا لن نفقدها أبدًا.

وقد اعتبر الكثير من المؤرخين ان مقتل هيباتيا مثل نهاية عصر التنوير والثقافة والمعرفة الفكرية وانحدارًا العصر الذهبي للحياة الثقافية في الاسكندرية الذي ظل مزدهرا عبر قرون طويلة كانت فيه الاسكندرية هي عاصمة الثقافة والعلم والحضارة.

Dr. Doaaدعاء بهي الدين، دكتوراه الآثار القبطية والبيزنطية، جامعة الإسكندرية، وهي باحث اول بمكتبة الإسكندرية ومحاضرة بجامعة دمنهور. د. بهي الدين عضوة في العديد من المؤسسات العلمية والثقافية، ومنها الجمعية الدولية لعلماء القبطيات والاتحاد العام للآثاريين العرب والمجلس الدولي للمتاحف.

** إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني

أضف تعليق