‬‏إكتشافات السنين لأم أربعة وأربعين | د. مني النوري

السبت ١٨ يوليو ٢٠٢٠              –كتبت: د. مني النموري

فى مستهل عامها الأربع وأربعين كانت تبدو اصغر بثمانية سنوات على الأقل وفى الصباح الباكر ستة وفى كافة الأحوال بدت أكثر عصرية وأنوثة عن عشر سنوات مضت.

كان هذا مدعاة للفخر والبهجة بلا شك لها ولزوجها..

لكن..

كان بداخلها نداء عجيب لأن تعلق على صدرها يافطة بعمرها..”أبلغ أربعة وأربعين عاما” ” انا أم أربعة وأربعين” ولو لم تكن تغطى شعرها لتباهت بشعرها الأبيض مع اليافطة .حين صرحت برغبتها لمن حولها سخروا منها، قالو لها أن تحمد الله على ما تبدو عليه، رفعوا حواجبهم دهشة وقالوا بلاش فضايح، مافيش ست بتقول سنها الحقيقى ، إنت هبلة؟ هى الصراحة القاتلة من أعراض سن اليأس؟ “

102
د. مني النموري

توقفت امام كل هذه العبارات وفكرت طويلا طويلا وهى تعد الطعام، وهى توصل الأولاد لدروسهم، وهى ترتب الفراش، وهى تنظر الى المرآة. كان عليها أن تحل لغز الرغبة المجنونة لإعلان عمرها الحقيقى وصحت يوما وهى تدرك بما يشبه اليقين أن ما يدفعها للبوح هوالرغبة فى التخلص من عار التقدم فى السن الذى يصبه المجتمع على رأس المرأة وكأنه خطأ ترتكبه وحدها دوناً عن الآخرين، وكأن قيمتها الحقيقية تكمن فى قدرتها على الفتنة الجسدية الشابة حسب المعايير الموضوعة من قبل المجتمع، أو على مدى كونها صغيرة، طازجة، ومستعدة لتقديم الخدمات المفترض أن تقوم بها من إسعاد الرجال وإنجاب العيال.

توقفت فى عقلها طويلا للرصد، رجعت سنوات كثيرة للوراء فوجدت كيف هو جسد المراة دائماً معضلة، كيف هو صليب يحملنه على ظهورهن طوال العمر :” مافيش لعب مع أيمن ومصطفى تانى وإلا حأكسر لك دماغك” ” انت لابسة ضيق ليه كده؟” ” ماتقعديش مرحرحة رجليك كده. ضمى رجليك على بعضهم” ” لما تسافرى بالقطر تلبسى بنطلون..البنطلون ضيق ليه كده؟ إنت حاطة ماكياج؟ ولما القذر ده إتحرش بيك فى القطر عملتيه له إيه؟ إزاى سبتيه يعمل كده؟ لسان بس ع الفاضى!”

تذكرت حملها وصديقاتها الكتب وهن يحتضنها على الصدر، تذكرت مشيتهن محنيات وعيونهن فى الأرض إتقاءً للنظرات النارية أو الكلام الجارح، كلها أفعال جسدية عفوية لحماية الجسد وإخفاء العار.وتذكرت حين إلتقطت حجراً وضربت به من تحرش بها ولم تنطق بحرف عن هذا لأحد.

وتذكرت العذاب الشهرى.التوتر والثقل الغير مفهومين قبل الموعد .الآلام الغير محتملة حين يحين الوقت.موجة تسونامى التى تطمثها هى وقريناتها كل شهر وتتركها وقد جٌرفت أرضها وأنهك زرعها! والقلق من أن يعرف أحدا ممن حولها والرعب من فضيحة البقع الحمراء على الملابس والسخرية من الدورة الشهرية التى كانت تسمع الشباب والرجال بأذنها يسخرون به بعضا لبعض ” مالك يا له؟ انت عندك الدورة؟” والسخرية من الحوامل ومشيتهن الثقيلة أو الرضاعة “قاعد جنب امك ليه يا …حتاخد الرضعة؟ ” ثم نفس السخرية مضروبة فى عشرين حين تبدأ الدائرة فى منحنى آخر عند الكبر.” القواعد من النساء ياعم! دى قد امك ياض!” وكأن كل ظواهر المرأة البيولوجية محل إستهزاء وسخرية.

راجعت تاريخها المهنى.راجعت التحرشات والتعليقات التى تهدف دائماً لإبعادها كإمرأة عن مركز الأحداث.راجعت المقاتلات اللاتى جاهدن لإثبات المساواة والكفاءة ولتثبيت أقدامهن فى مجالات سيطر عليها الرجال، رفعت لهن القبعة وشعرت بشفقة غريبة عليهن فهن يلعبن اللعبة بقواعد الرجال أيضاً وقليلات هن من فلتن من السباق العنيف ونجون دون سخرية أو تشبيه بالرجال أوفقد لحياتهن الإجتماعية والإنسانية كأناث فى مقابل ما حققنه.

راجعت الإنجازات، معادلة البيت والعمل والطموح الإجتماعى والمِهنى: توازن إستلزم المشى على الحبال المشدودة وكلما مر الوقت وزاد تشدق الناس بإستقلالية المراة المزعومة كلما تخلى المجتمع عن مساندتها، تلك المساندة التاريخية التى تلقتها المرأة ممن حولها سابقا.

داهمها الغضب من الصمت! صمت تٌدفع له المرأة دفعاً طول الوقت، حتى وهى تتكلم عن كل شئ فهى تصمت، يتركونها تتكلم عن الموضة والطبخ والعيال والبيوت، يتركونها تتكلم عن الأسعار والدروس والواجبات..لكنها لاتتكلم، ولايعلمون انها لاتتكلم ولو تكلمت فهى بنظرهم مخطئة ترى الأمور بمقياس معوج، تماما مثل الضلع الذى خٌلقت منه، لاترى الصورة بشكل طبيعى بسبب حرب الهرمونات التى تشتعل فى جسدها، وكلما إرتفعت مكانتها الإجتماعية ومكانة أسرتها، زادت مساحة صمتها فمعايير المكانة الإجتماعية مثل هرم ثقيل على صدورهن ومعه تزداد حيرتها فهى تظن انها تمتلك الرؤية والمفردات لكن لاشئ يجدى عند مرحلة تكوين الجمل والعبارات.تقف الأفكار على الشفاة ولا تخرج.

أثناء قيادة السيارة يوماً وهى فى إشارة طويلة راقبت فيها وجوه البشر من حولها داخل السيارات المجاورة وخارجها لها بإكتشافات أخرى، الكل مربوط فى ساقية القهر ذاتها رجال ونساء فى مجالات عدة وفى السياق الإنسانى الأساسى..وكأن الناس فى الحياة مُرَتَبون على شكر هرمى، والقمة تضغط على ما تحتها، وما تحتها يضغط على ما تحته وتقع المراة والطفل قرب القاع ويقع الفقراء منهم فى قاع هذا القاع وكلما نقص شئ منهم إزداد بعداً فى القاع.

كان هذا شافيا لغليلها لفترة ما حتى رصدت انه حين يتم إهانة الرجل غالبا ما تٌستخدم صفات أنثوية وكأن ما يصف المرأة فى حد ذاته مهين. ” ده..خ…!” ” ” بس يا مر ..!” ليه يا.. أمك؟” ..على أمك” “…أمك!” وفى ثقافات أخرى أختك! فعاد إحساسها بالإستياء. لم تكن أعياد مثل عيد المرأة تبهجهها. كانت ترى فيها تحجيماً للمرأة. ولماذا التكريم أصلا؟ ولماذا لايكرم الرجل فى المقابل؟ ولماذا يظن المجتمع ان الإساءة التاريخية للمرأة سيتم محوها فى يوم؟ ولماذا لايتم الترتيب لنشر ثقافة مختلفة قائمة على المساواة بمعنى جديد لا ينفصل عن المساواة والكرامة للجميع ،كرامة على طريقة عيش حرية عدالة إجتماعية.كرامة تجعل للجميع حق فى التعبيروفى التحقق وفى الحلم حتى لو كان المتاح منهم قليل فيٌوزع بالتساوى على الجميع ولا يستأثر به أحد ثم يتشدق بحقوق المراة ويوم المرأة وتكريم المرأة..لن يتم تكريم المراة على أرض الواقع إن لم يكن المجتمع بأسره مكرماً، متعلماً واعياً بقيمته الإنسانية فرداً فرداُ، رجالاً ونساءً، شيوخاً واطفالاً، أغنياء وفقراء.

لكن النساء دائماً فى ظلم اكبر..

سحبت نفساً طويلاً ودفعت بحبتى مسكن ورشفة طويلة من القهوة الى جوفها وعادت تسأل ما علاقة كل هذا برغبتها فى أن تعلن انها أم اربعة وأربعين؟

ردت عليها نفسها ” ألم تفهمى بعد؟ هى رغبة فى القيام بفعل صريح عكس الدائرة المغلقة التى يدور فيها الجميع. رغبة فى التخلص من العار والتحرر من الأفكار المسبقة.نعم أنت فى الرابعة والأربعين.أنثى.لاتشعرين بالضعف إلا كما يشعر كل البشر مع تقدم السن. لا تشعرين بالقِلة إلا عندما يصر من حولك على وضع حدود الشباب وحدود الشيخوخة وتقسيمك إنسانياً على اساس لا توافقين عليه، يحدث هذا حين يتم تسطيح معنى الوجود فى القدرة الجنسية، ويتم تسطيح القدرة الجنسية فى فعل. هذا الإعلان هو ثورة مهذبة على ظلم وقح.

تذكرت كعكة عيد ميلادها العاشر، آخر كعكة حصلت عليها حين قررت الأسرة انها قد إنتهت من طور الطفولة وإنتقلت لطور آخر لم تعد فيه الكعكة مهمة بل البدء فى شراء محتويات جهازها! ابتسمت وهى تتذكر أنها كانت الكعكة الافضل على الاطلاق.

سابقا، كانت من شدة غضبها تتمنى أن توقف الناس كلها فى صف واحد وتصيح فيهم. الان تشعر أن الجميع يدوس الجميع وأن أهرام الظلم لا حد لها فى هذا الكون الواسع وأنها فقط تود لو اوقفت الترس العظيم للحظة و قالت فى هدوء وصمت ما تود ان تقوله عن نفسها بأقل عدد ممكن من الكلمات.

علقت اليافطة ” أنا أم أربعة وأربعين..و القلب لسه صغير..صغير”

جميع الحقوق محفوظة مصر العربية 2014

إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني **

أضف تعليق