تحرير المرأة ونشأة جماعة الإخوان في الرواية التاريخية “جرافيت” لـ هشام الخشن

٣١ ديسمبر ٢٠٢٢
أليكساندرا كينياس – ترجمة دينا المهدي

على صفحات رواية هشام الخشن التاريخية “جرافيت”، سافرت في رحلة عبر الزمان والمكان إلى العقود الأولى من القرن العشرين (1928 على وجه التحديد)، عندما كانت تحدث تغييرات كبيرة في مصر وحول العالم.

تدور أحداث الرواية بين مصر وفرنسا، ثم مركز الفنون والموسيقى والأدب. وفي ذلك الوقت كانت رياح التغيير تهب عبر البحر المتوسط ​​باتجاه العاصمة المصرية.

في رواية “جرافيت”، لم يقارن الخشن المجتمعَين فحسب، بل قام أيضًا بتشريح المجتمع المصري، مسلطًا الضوء على حدثَين رئيسيين؛ هما: تحرير المرأة ونشأة جماعة الإخوان المسلمين، التي أنتجت الإسلام السياسي. ورغم التغييرات العديدة التي طرأت على المجتمع في ذلك الوقت، فقد تبنى الخشن هاتين القضيتَين كموضوعَين رئيسيين ترتكز عليهما الرواية.

نوال عارف، الشخصية الرائدة في الرواية، حصلت على شهادة البكالوريا من مدرسة لا مير دي ديو الفرنسية، واختارتها وزارة التربية والتعليم إلى جانب 12 فتاة أخرى للحصول على منحة لإكمال دراستهن الجامعية في أوروبا.

من خلال حياة هذه الفتاة البالغة من العمر 18 عامًا، يأخذنا الروائي في رحلة داخل اللوحة الملونة لمجتمع أوائل القرن العشرين التي شكَّلت الهوية المصرية، وقد رسمها ببراعة.

يتجلى صراع الأجيال في العلاقة بين نوال عارف وجدتها، صراع يكبله قيود ورثناها عن الأجيال السابقة. وبسبب تمسك الجدة بالأمر الواقع، اعترضت على رغبة حفيدتها في الدراسة في الخارج. على عكس موقف والدة بهيجة عارف، تحدى والدها تقاليد الأسرة، فهو لم يبارك فقط سفر ابنته، بل هو أيضًا مَن سعى من خلال علاقات رئيسه الفرنسي لترشيح ابنته للمنحة الدراسية.

كانت درية شفيق من بين اثنتي عشرة طالبة نالت منحًا دراسية لفرنسا وإنجلترا، وعندما حصلت على شهادتها، كان لها عند عودتها من فرنسا دور مهم في تحرير المرأة المصرية في القرن العشرين. وعلى عكس شخصية نوال التي كانت من نسج خيال الروائي هشام الخشن في رواية “جرافيت”، كانت درية شفيق شخصية تاريخية. تتألق مهارات الخشن الأدبية في مزجه بين الشخصيات الخيالية والحقيقية؛ حيث ينسج الأحداث الخيالية مع الحقائق التاريخية دون الإخلال بالسياق الدرامي للقصة.

نتعرف على شخصية بهيجة، ابنة عم نوال، التي استخدمها الخشن لتعزيز شخصية نوال باعتبارها النقيض لها. بهيجة عارف تعد هجينًا من جدتها ووالدتها. فعلى عكس نوال، تتلقى بهيجة تعليمًا متواضعًا، وطموحها الوحيد في الحياة هو الزواج وإنجاب الأطفال. باتباع نصيحة جدتها، فإن سر نجاح زواج بهيجة التقليدي هو جسدها وطهيها الشهي.

تقودنا بهيجة عارف إلى خط القصة الثاني؛ وهو ظهور ونشأة الإخوان المسلمين. وهنا يعيد الروائي الشخصيات الحقيقية إلى الحياة؛ مثل حسن البنا؛ مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، وأحمد السكري؛ أول سكرتير للجماعة. من خلال الصداقة الخيالية في الرواية والتي جمعت بين جماعة الإخوان المسلمين وحلمي الأهواني، زوج بهيجة، نتعلم كيف تم تشكيل الجماعة، وكيف استقطبوا الأعضاء وكيف تعهدوا بالولاء للمرشد.

من الصعب على أي كاتب أن يكتب رواية تاريخية. فهو أمر يثقل كاهل الكتاب بمزيد من التحديات؛ لأنه بينما يتحرى الدقة في سرد الحقائق التاريخية، لا يزال عليه أن يكتب قصة مقنعة وجذابة للقراء، دون أن يفقد مصداقية من حيث الدقة في سرد الأحداث التاريخية. حتى الشخصيات الخيالية في الروايات التاريخية يجب أن تعكس البيئة المحيطة بدقة. وعلي المؤلف أن يحرص بشده على تصوير المكونات الثقافية والسياسية والاجتماعية التي تصور الحقبة المختارة بدقة. وقد استطاع الخشن في رواية “جرافيت” من أن ينقل القارئ بنجاح إلى العالم الخيالي والتاريخي في مطلع القرن.

وضمن الشخصيات المتنوعة في الرواية، نلتقي بشخصية أرمنية تدعى ليفون كركوريان، ورجل يهودي اسمه يعقوب موشي، والحاج عبد العليم الأهواني، والمحامي صفوت مختار، وديميترا وإيلينا؛ ابنتي الحلاق اليوناني. ورغم أن هذه الشخصيات طُوِّرت بدقة؛ فإنها لم تكن أبطال الرواية الوحيدين. فالمجتمع المصري بأكمله له دور مهم، كما صوره لنا الروائي.

في هذا الوقت من التاريخ، كان المجتمع المصري موطنًا متعدد الثقافات يضم جنسياتٍ ودياناتٍ وأعراقًا متنوعة. عاش المسلمون والمسيحيون واليهود جميعًا في تناغم ووئام، حتى زعزعهما ظهور الإخوان المسلمين وما تبع ذلك من عواقب غيرت خريطة مصر السياسية والاجتماعية والدينية. حتى ذلك الحين، كانت مصر نسيجًا شكلته الثقافات الفريدة والملونة في ذلك الوقت.

ينجح الروائي في التعمق في هذا المجتمع؛ كي يصف لنا خيوطه الملونة ويعكس جوهره الذي يربط أحداث الرواية معًا. يتجول القارئ في عالم المال والتجارة، ويصلي في المساجد، ويزور غرف اجتماعات جماعة الإخوان المسلمين، ويراهن على طاولات البوكر ويتناول النبيذ، ويحضر حفلات الزفاف في الكنيسة اليونانية، ويجلي على بار ميتزفه في الأحياء اليهودية.

“جرافيت” رواية مليئة بجماليات ﺍﻟﻭﺼﻑ، ولغتها غنية، وقصتها تتدفق أحداثها بسلاسة، وتفاصيلها لا تربك القارئ ولا تتكدس في الصفحات وتمس حواسه بشكل ملحوظ. الخشن متمكن في استخدام أدواته الأدبية؛ مثل المخرج السينمائي المحترف. فالمشاهد نابضة بالحياة ومليئة بالألوان وظلال الضوء والأصوات.

تتطور شخصية نوال مع تقدم القصة. أصبحت تجسيدًا للمرأة المصرية، وبفضل الحريات والحقوق التي مُنِحَت للمرأة، كسرت نوال قيود الأعراف المجتمعية التقليدية، وحلقت بعيدًا عن سجنها.

بينما تدور أحداث القصة في مطلع القرن الماضي، تتشابه أحداثها بشكل لافت مع تلك التي تكشفت في المجتمع المصري اليوم. نرشح تلك الرواية لكل امرأة؛ كي تقدِّر الحقوق التي تتمتع بها، وتفهم الكفاح والإذلال والمعاناة التي تحملها أسلافها لمنحها هذه الحقوق.

إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني **

أضف تعليق