هيلوبوليس ومسار إجباري: رسالة في حب الذات

٣٠ مارس ٢٠٢٣
جيهان راضي 

قَادَتني قدماي منذ عدة أسابيع في لحظة ألم على الصعيدين معًا_ الجسدي والنفسي_ إلى مكاني المُفضَّل (هيليوبوليس)_ أحد كافيهات بلدتي الصغيرة_ حيثُ ألجأ إليه دائمًا حينما أرغب في أن أنفرد بذاتي ولأُعيد ترتيب أوراق حياتي من جديد. اخترتُ طاولة بمنأى عن الزبائن، جلست في هدوء وطلبت من النادل قهوتي، كان المكان هادئًا، والموسيقى أيضًا. بالخارج الطقس بارد والسماء رمادية تُعزِّز شعور سوداوي كئيب، وكامرأة تؤمن بقدرة الكتابة على التشافي، أخرجتُ ورقة A4 بيضاء وأمسكتُ بقلمي الرصاص، ثم بدأت أكتب على الورق ما يؤلمني، ولكن قبل أن أسرد ما حدث معي ذلك اليوم، دعني أسرد أولًا خلفية ما حدث قبل هذا اليوم.

 كنتُ أُعاني من آلام جسدية رهيبة وأرفض الذهاب للطبيب استنكارًا لحالتي المرَضية لأنني قد ذهبت للمستشفى مرتين في الآونة الأخيرة لأسبابٍ مختلفة في كل مرة، أكره أن أعتاد المستشفيات والأطباء، وربما أُفضِّل أن أعتاد الألم! بالطبع أُدرك الآن بعد مرور شهر تقريبًا على تلك الحادثة أنني كنت مُخطئة، لا فِصال في الصحة، لكنني وقت ذاك تحملَّتُ الألم لإسبوعين متواصلين على أمل الشفاء بمفردي، وقد زاد هذا الطين بلة، حيث انعكس الألم الجسدي على حالتي المِزاجية، وصادف ذلك أيضًا عدة مشاكل على مستوى العمل والعلاقات الشخصية، تركت عملين وانسحبتُ من برنامج الدكتوراه في تخصصي، صحتي ليست على أفضل ما يُرام، انسحبت أيضًا من العمل التطوعي الذي أحب، أنا بلا طاقة، هكذا أخبرت نفسي،  أذكر فقط أنني فجأة شعرت بالوحدة، أنا لا أخاف الوحدة، أو بالأحرى بِتُ قادرة على التعامل معها بطريقةٍ ما، لكن الأمر هنا أنني فجأة شعرت بالرثاء على حالي، وأنا أمقت أن أرثى لحالي. 

حينما بدأت الكتابة على الورقة، كنت أخاطِبها كأنها صديقتي المُفضَّلة، كنت أريد أن أُفرِغ كل مشاعري، وبعد كتابة عدة سطور شعرت بأنني أختنق وأرغب في البكاء، وهذا أمر أعتبره جيدًا، لأنه أحيانًا تشتد الأحزان فتقف بينك وبين الدموع حائلًا، لكنني أخبرت نفسي أنني لن أبكي الآن، سأبكي في الحمام، حينما أكون بمفردي، ومع كل سطر أكتبه كنت كأني أضغط على جُرحٍ حتى يندمل، في كل سطر شعور يتضارب مع الآخر وفكرة تُصارِع الآخرى، وكانت الأصوات تتعالى داخلي، مثلًا حينما أكتب أنني تركت العمل وانسحبت من استكمال دراستي؛ صوتُ داخلي يصرخ في: “أنتِ فاشلة، أنتِ لستِ ذكية بالقدر الكافي”، وحينما أُحاول أن أُخرِس الأصوات، كنت أنهار ولا أقوى عليها، تغلبني الأصوات داخلي فأنهزم أمام ذاتي، يشتد الصراع وكأنني اثنتين أو ثلاث أو أكثر، أشخاص متعددة تهتف بي وتنتقدني، تُعنفني وتحكم عليّ، أنا القاضي والجلاد، أمارس كراهية الذات بإتقان، و في مثل اللحظات أعرف أنني أفتح جروح غائرة، أضع عليها مُطهر يجعلني أحترق، أتألم، وكأني أنسلخ عن جلدي أمامي في لحظة ربما أُولّد فيها من جديد.

بعد أن كتبت كل ما يؤلمني قررت أن أدخل الحمام، تركت حقيبتي وأخذت معي الورقة التي كتبت فيها كل شيء، وقفت أمام المرآة أنظر للورقة وأقرأها بصمت، انهمرتُ في بكاءٍ غزير كريهٍ مرير، تعالى الصوت تلك المرة بشدة: “أنا وحيدة، مريضة، فاشلة، أنا أم منفصلة، طالبة غير ناجحة، وعاملة كسولة، أقرب الناس لي في بلدٍ بعيد تفصل بيننا المسافات، أنا منبوذة وكريهة و …إلخ”، وبينما أنا أبكي؛ انبعث الصوت بالخارج لمسار إجباري: “أنا هويت.. وانتهيت”، توقفت عن البكاء، عُذرًا سيد درويش، أنا أعشق ألحانك، لكن التوزيع الحديث استطاع أن يتسلّل لروحي ويمد يديه إليّ، يحتضنني ويُربِّت على كتفي، يّهدهدني كطفلة فقدت لعبتها للتو، ويُخبرني: “كل شيء سيكون بخير.” 

مزّقتُ الورقة إربًا إربًا، وألقيت بها في سلة المُهملات، شعرت لثوانٍ أنني أهدأ وأكثر اتزانًا، وكان هذا الغرض من تدوين مشاعري على الورقة منذ البداية، لطالما كانت هذه الطريقة فعّالة، تطلعتُ في المرآة وأدركت أمورًا عديدة، أولها؛ أن الناس في بعض العلاقات تُراهِن عليك، مثلًا؛ في العمل ربما يُراهِن مديرك على مدى صبرك وعطاءك، وهنا الحل في يديك، عليك أن تتعلم متى تعطي ومتى تتوقف عن العطاء، في الصداقة؛ ربما يراهن الصديق على تغافلك، فإذا تغافلت عن خطأ مرة ربما يبدو هذا ضعفًا، أحيانًا نتغافل حقًا ليبقى الود كما يقولون، لكن لن يفهم ذلك سوى نفسٍ سوية، وربما يُراهِن الحبيب على قوتك، فيتكيء عليك وينسى أنك قد تحتاج أن تستند عليه، وربما يكمن الحل في كل هذه التجارب في كلمة واحدة: (الحدود)، الحدود الصحية هي تلك الحدود التي تضعها لنفسك قبل الناس، تستطيع من خلالها أن تُحدد لنفسك متى تقول نعم وكيف تقول لا بقوة لتحافظ على توازنك وبالتالي تقي نفسك آلام الخذلان، وربما هذه الحدود هي أول خطوات حب الذات، فإذا كُنا نُتقن ممارسة كراهية الذات فلماذا لا نتعلم أن نتقن ممارسات حب الذات؟

أنا أُحاول في كل مقال أكتبه أن أكون موضوعية، حتى وإن نقلت تجربة ذاتية؛ فأنا أريد أن أنقلِها بهدف ترسيخ رسالة موضوعية، لكنني تلك المرة أنقل تجربة ذاتية بحتة، أعترف بذلك، ربما إيمانًا مني بقدرة التدوين على شفاء جروح الذات، وربما توثيقًا للحظة أدرك جيدًا أنني صِرت بعدها ليس كما كنت قبلها، و ربما لأُلهِم أي إنسان يشعر أنه بلا طاقة، لا يقو على القيام من السرير في الصباح، ليقف على قدميه من جديد، ليعرف أنه دائمًا هناك بداية جديدة مع كل نهاية مؤلمة، ربما تكون تجربتي رسالة لأي امرأة لا تحب نفسها بالقدر الكافي، لتتعلم كيف تُفرِغ مشاعرها وتتصالح مع عثراتها وتتعلم كيف تحب نفسها، بعد هذه الجلسة خرجت من الحمام، عدت أجلس مرة ثانية وكتبت في ورقة بيضاء جديدة قرارت جديدة وحددت لنفسي حدودًا صحية لأنني لا أريد أن يُراهن على وجودي أحد بعد الآن، لأنني أخيرًا عرفت قدر نفسي وأدركت كيف أنني غالية في عين نفسي، العمل والدكتوراه لن يرفعا شأني ولن يخسفا قدري، أنا غالية بمبادئي، وقيمي العالية في الحياة، وربما أكتب هذا المقال لأعِد نفسي أمام الله كيف أجعل قيمي نابعة عن حب الله وفي سبيل حب الذات، وفي النهاية انصرفت من هيليوبوليس والصوت يتردد داخلي: “ما دُمت أنا بهجره ارتضيت.. خلي بقى اللي يقول يقول”. 

إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني **

أضف تعليق