بَراح | يحيا المرء منّا متكأً على عكاكيز العَشم

١٣ مايو ٢٠٢٤
أسماء عرفة

يقولُ شمس الدين التبريزي: “إن المرء مع من لا يفهمه سجين”. وأقرأها بينما يعود عقلي للوراء لأكثر من سبعة عشر عامًا. ربما كنت أبلغ الثامنة أو التاسعة من العمر لا أذكر بالتحديد. كنت ألعب الغُميضة أو كما كنا نسميها بلغتنا الشعبية “استغماية” في سلامٍ نفسي يحيط بروحي وبروح أولاد خالاتي الأربعة. نهرول هنا ونقف هناك، بينما تتولى إحدانا مسئولية الإمساك بالبقية في همٍ وغمّ كأنها ستخسر حربًا عالمية إن لم تفعل.

وفي لحظةٍ عابرة كنت أنا وإحداهن نقف في نفس البقعة قريبين للغاية من بعضنا، وقريبين أكثر مما أسميناه “الأُمة”. ترتجف أرجُلنا وتتهدج أنفسنا كلما سمعنا أصوات حائرة في المكان ونتوقع أنه سيتم الإمساك بنا في أي لحظة، ابنة خالتي تلك كانت تخشى القطط بشراسة. يمكنها أن تقطع أميالًا للهروب من ذلك الحيوان البائس الذي لا حول له ولا قوة، ومن حظها العسر أن اللحظة التي كادت فيها أن تلمس “الأمة” هي نفس اللحظة التي كادت أن تدهس قدميّ قطة تستند على حجرٍ صغير بينها وبين جدار الحديقة التي تجاور منزل جدي (ولكن دون أن تراها).. وحين رأيتها أنا دفعت ابنة خالتي بعيدًا في حركةٍ لاإرادية، الأمر الذي تسبب في الإمساك بها من ابنة خالتنا الثالثة التي “سفَّت التراب” في سبيل ذلك..

حدث الأمر في وهلة التفتُ خلالها لشرح ما حدث وإذا بها تنهال عليّ بالصراخ وتبكي في مرارة وتتفوه بكلمات مفادها أنني أكره أن أراها تكسب في لعبة واحدة من الألعاب.. لم تمهلني أبدًا فرصة الرد أو تشعرني بحقٍ في امتلاك الأعذار أو ربما تتوقع وجود خطأ ما في المنظومة كلها.. حزنت كثيرًا يومها لدرجة جعلتني أعجز عن النوم.. وحين سألتني أمي أخبرتها بكل شيء، وعلى رأس القائمة كان شعوري بالحزن لأن ابنة خالتي توقعت مني أنني أحمل لها هذا القدر من السوء والضغينة وأنها تراني بشكل مختلف تمامًا عما أنا عليه.. ولا أنسى جملتها حين قالت لي: مريم لا تعرف طباعك جيدًا، فلا تتوقعي منها أن تفهمك هكذا ببساطة.. قلت لها في تحدٍ للواقع: لكنها صديقتي! لتجيبني في ثقة: صديقتك ولا تفهمك. الأمران لا يتعارضان في شيء.. كل ما في المسألة أن تدركي الفكرة حتى تخبو توقعاتك في المرات القادمة.. ولا تلومي الآخر على اختياره بتصديق عينه وتكذيب إحساسه.. فنحن بشر في نهاية المطاف، وأنتِ عندك جزء من الخطأ. 

مرت الأيام وتفرقت الطرق وانقطع الوصال وقاومت الفكرة، حتى قابلت أصدقاء جدد وعشت حياة زاخرة بتفاصيل مشابهة، لكن تلك الجملة ظلت تؤرقني لفترات.. كلما اقتربت من إحداهن كان العراك الدائر بداخلي يتوهج أكثر وأكثر ليخبرني ألا أثق. ألا أحب لدرجة انتظار الفَهم والتفهم. ألا أطلب أن يراني الناس بعيني. لأن لكلٍ منهم عينه الخاصة التي يختار بوعيه إلى أين يوجهها.. لكن حدث واقتربت ومنحت كل حبي وتقديري واعتزازي وتضحياتي واستثمرت نفسي وروحي في صديقة أخرى عرفتها بمحض الصدفة.. صديقة وضعتها الظروف أمامي حين جاءت لتؤنس وحدتي في فصلٍ دراسي غريب الأطوار.. وفي مرة من المرات حين تزاحمت عليّ الدنيا وضاق بي القدر وقعت في موقف يستدعى التبرير حتى لا تفهم صديقتي تلك أني قصدت آذيتها.. وبعدما جلسنا جميعًا أنا وهي وشهود على الواقعة. وقفت صديقتي في منتصف الجلسة وقالت: أنا أعرف أنك لم تقصدي كذا وكذا.. هذه ليست أنتِ.. وأنا أفهمك جيدًا.

لم أشعر بنفسي إلا وأنا أعانقها بقوة. وأتذكر كلام أمي وكل ذكرياتي مع هذا الشعور المؤلم والمفرح في نفس الوقت بأن يجد المرء أخيراً من يفهمه. شعرت أنني أملك الدنيا وما فيها. أنني أتنفس بشكلٍ لم أكن أتمناه على الإطلاق، كأن هناك حلم من أحلامي قد تحقق. وليس هم قد انزاح فحسب!

والآن.. بينما أقرأ ما قاله التبريزي أدرك كم أنا عاجزة عن تقبُّل أنه لا يوجد في العالم من يفهمنا كقاعدة مُطلقة، بل هناك من يفهمنا ويختار ألا يفعل، تلك هي معضلة الحياة. الناس تُصادق بعضها البعض، ثم يحاول أحدهم أن يشن حربًا يعرف أن أسبابه رمادية لا هي بيضاء ولا سوداء مما يربُك الشخص الآخر، الذي يتوقع أن يتم فَهمه بضرورة العَشم، أن تُوضع له الأعذار، حربُ ربما بقليل من التفهم كان ليخرج فيها الصديقان رافعين رايات النصر، لكن الأزمة هنا في إنكار المرء لقدرته على فهم صديقه. لإنكار المرء قدرته على الترويح عن نفس غيره وإخراجها من براثن الحيرة وضرورة إثبات حسن النية كل يوم وكل ساعة وكل ثانية.

الأمر بسيط للغاية، ومعقد لغايةٍ أبعد، إننا نحيا متكئين على عكاكيز العشم، لكنها عكاكيز رفيعة جدًا تكاد تشبه الخيوط، عكاكيز تنكسر بدون محاولة الضغط عليها، تنكسر إذا غفونا عنها، نحيا ونتنفس بمن يفهموننا دون شرح، ومن يقفون على العتبة في انتظار أن تخونك أحد العكاكيز فيمنحك غيره في نفس اللحظة، نحيا بالصديق الذي يتحدث عنّا، ولا يسألنا لأنه يعرف الإجابة، هذا الصديق موجود، ربما يختبئ خلف نفسه، خلف خوفه من الاستغلال، لكنه موجود، في انتظار من يفهمه هو الآخر، ولا يأخذ من حبه نقطة ضعف.. ربما ينصلح حال العالم لو أن مشاعرنا تُكتب على وجوهنا، لكن الحقيقة أن من يفهمنا يقرأها دون حتى أن تُكتب أو تُقال أو تُزيّف أو تختبئ أو تزوغ في رحاب الزمن والمواقف.

انتهى.. أو ربما لم ينتهي.. أتمنى أن تفهمني دون أن أعرفك حتى.

أضف تعليق