براح | ليت الزمان يعرف وحده، متى يعود ومتى يرفض العودة!

١٨ مايو ٢٠٢٤
أسماء عرفة

ينتشلني أخي الصغير من شرودي فجأة، على أمنيةٍ مشتركة لجيلٍ كامل في مثل عمره و عمري الذي لا يزيد عنه بأكثر من خمس سنوات، يُمصمص شفتيه في هدوءٍ وبراءة بينما ينظر إلى إحدى الألعاب القديمة التي عثر عليها صدفةً في صندوقٍ توالف قديم، وهو يقول: ليت الزمان يعود يومًا.. فتخترق الجملة حاجز سمعي وروحي معًا، ولمرة نادرة من المرات أراني أتدبر في تلك الأمنية التي نرددها نحن جيل التسعينات والثمانينات، وحتى جيل الألفينات الذي صار يزاحمنا عليها في تطورٍ مخيف للأحداث.. هل حقًا نريد للزمان أن يعود؟ وإن عاد وأطَعنا وامتلكنا تلك المِزية الخفية، هل سنختار الحُلو من المُر أم سنخوض المعارك كاملة؟ هل سننتقي؟ أم سنمتلك الشجاعة لعيش نفس التفاصيل بنفس الشكل ونفس الترتيب الذي حدثت على أساسه في الماضي؟ هل كل وقتٍ مضى يستحق أن نتمنى عودته؟

أغوص في حيرتي تلك حتى يحضرني مشهد عابر لطفلةٍ تهرول خائفة على الدرّج الطويل بالمدرسة، تهرول لاهثة على أمل الوصول لمُرادها دون أن تطلب مساعدة من أحدهم، وكأن في ذلك إهانةً لكرامتها، لكن العائق الكبير أنها تحمل ما يفوق الثلاثين دفتر، كل دفتر مُغلف بجلاده الأصفر المُحكم والذي تتولى مسئولية وصوله بسلام وآمان إلى معلم اللغة الإنجليزية في مجلسه بغرفة المعلمين، المُعلم الذي أوكلها بتلك المهمة بعد انتهاء حصته، وكان عليها أن تضمن له ذلك دون فقدان أو تلف أي من المنقولات

دقات قلبها تتسارع وقدميها تخونها مرة وتنصفها مرة، حتى وصلت وأتمت مهمتها بنجاح، لكنها سرعان ما عادت للهرولة مرة أخرى، لأن السبب الرئيسي لكل هذا الذعر هو رحلة العودة، الرحلة التي كان عليها أن تقطعها في خمسِ ثوانٍ، خوفًا من احتمالية التأخر على الحصة التالية، حصة الرياضيات.. وما خافت منه حدث، فما أن وصلت حتى وجدت باب الفصل مغلقًا، وحين ابتلعت الغصة في حلقها وحاولت الطًرق على الباب، جاءها رد محتد وتفاجئت بردة فعل عنيفة للغاية من المعلمة التي ألقتها بتهم الإهمال والتهرب والتأخر وانعدام المسئولية، وهُنا ضُرب بطلب المعلم الآخر عرض الحائط وتم عقاب الطفلة بناءً على فعلتها، ولم يُغفر لها أنها كانت من أوائل الطلاب في المادتين، الإنجليزية، ومادة الرياضيات.. وفاتها الدرس.

تلك الطفلة هي أنا.. وهذا اليوم لا أتمنى عودته أبدًا، أتمنى انتشاله من ذاكرتي، يومها عوقبت على شيئًا لم أفعله بإرادتي، عوقبت من شخص ذو سلطة بسبب شخص آخر له نفس السلطة، والأقسى من ذلك أن العقاب كان حرماني من حق من حقوقي، وليس شيء ترفيهي أتعلق به وأتشبث به، تلك الطفلة لو عاد بها الزمان إلى هذا اليوم ربما تصيبها نوبة من نوبات الذعر الشديد.. ولعلها لو قابلت نفسها في نسختها الثلاثينية التي تتمنى عودة الزمان، لنَهرتها وطلبت منها أن تصمت وتعيد التفكير فيما تقول، تلك الطفلة هي أنا وأنتَ وأنتِ وأنتم وأنتن، هي واقع ذكريات وماضي يحمل أمواجًا عاتية في أيام، ونسمات ربيعية في أيام أخرى، ونحن جميعًا لا نقوى على مجابهة بعض الآلام التي ولت وانتهت، وأحيانًا ما نحمد الله على الخلاص منها، فكيف إذًا نتمنى عودتها مرة أخرى.

يحضُرني قولٍ شهير بالإنجليزية يعبر عن خطر تلك الحقيقة في كلمات Be careful what you are wishing for وفي العربية يقول: احذر ما تتمناه، أعتقد أن الأمنية الصحيحة هي أن يعود الزمان ولكن بوعيه الكامل، وعيه الذي يجعله قادرًا على انتقاء اللحظات الحُلوة وفرار من اللحظات التي لن تتحملها قلوبنا مرتين، يعود وهو يعلم ما عانيناه هنا وما قاسيناه هناك، وما سنعانيه لو عُدنا، وما سنقاسيه لو عِشنا، يعود دون أن يطرق على نفس أبواب الفضول التي تركناها من قبل، يعود وهو يعلم التجربة الخاسرة ويقوى على اختيار رفضها، يعود وهو يتجنب كل شيء ويعيش لنفسه فقط، يعيش ليحميها، ويستمتع بأفراحها ويتخلى عن مسئولية آلامها، يعود بلا رادع، يعود بلا روحٍ طامعة، يعود بلا قلبٍ مُحب ونفس سوية، يعود حريصًا من كل شيء.. هذا إن استمع إلى حماقتنا وعاد

ألتفتُ إلى أخي وعلى وجهي ابتسامة حانية لا تقوى على الحكي والتبرير، وأقول له في هدوءٍ دون شرح وافي لعقله المازح ونفسه البسيطة: ليت الزمان يعرف وحده متى يعود، ومتى يرفض العودة.. حتى إن تمنيناها.

أضف تعليق