براح| “صاحب بالين كداب”.. رسالة إلى قائل هذه العِبارة.

٥ يونيو ٢٠٢٤
أسماء عرفة

أقف على أناملي التي تُلامس عتبة باب غرفة المعيشة في هدوءٍ مصطنع، بينما يتخبط السكين الصغير في يدي يمينًا ويسارًا وأنا أشير لابنة خالتي في المطبخ كي تحضر لي صينية فارغة استعدادًا لتقشير البطاطس وطهيها حين أتوجه عائدة إليها، عيناي على التلفاز أتابع الحلقة الأخيرة من مسلسي المفضل، أو مسلسل جدتي التي تتوسط الأريكة في بقعتها المعتادة، وتتابع بدروها ما بدأناه معًا منذ بضعة أشهر.. لكن عقلها يشرد للحظات بينما تقلب نظرها بيني وبين التلفاز، كأنها تريد قول شيئًا لن يحتمل التأجيل.. وقبل أن تتفوه به، تناديني ابنة خالتي في إلحاح متكرر لحاجتها إلى المساعدة بشأن اتخاذ قرارٍ مصيري مثل قرار اختيار حجم الصينية المرغوبة، وما أن أختار معها حتى أُسرع عائدة إلى الغرفة كي لا تفوتني نهاية الحلقة.. وهنا تنهار قوى جدتي في الكتمان وتنظر إلي في حدّة لا تليق بوجهها الحنون، وتقول: يا بنتي! اختاريلك بر وارسي عليه، يا تروحي هناك يا تقعدي هنا.. إنما صاحب بالين كداب.

أعتدل في وقفتي وأنظر إليها في تحدٍ كالمعتاد، لكني لا أقوى على معارضتها رغم كل شيء، لذا أكتفي بالصمت والعودة إلى المطبخ على أية حال، طالما أن الحلقة في نهايتها ولن يضيرني أن أفوت المشهد الأخير، ويمر النهار وأنتظر الأخذ بثأري في اللحظة التي يجلس فيها الجميع على طاولة الطعام، ثم يتهافتون على تناول صينية البطاطس اللذيذة التي تبدو أشهى من كل مرة أصنعها فيها، وحينها أقبض على جدتي وهي تصدر أصوات المضغ التي تعكس استمتاعًا كبيرًا بما تأكله، وأسألها إن كانت البطاطس قد تأثرت بعدد المرات التي ترددت فيها على غرفة المعيشة لمشاهدة المسلسل أم لا.. لكنها تنظر إلي في خجل يمتزج بصيغة اعتذار مستترة، وهي تقول: مش هنقول جت معاكي كده المرة دي.

أتركهم يتناولون الصينية بالكامل بينما يعلق ذهني بحديث جدتي، وتحديدًا بالمرة الأولى التي سمعت فيها جملة: صاحب بالين كداب.. أتذكر أنها صادفت ليلة التحاقي بالجامعة، واختيار تخصص دراسة اللغات، كان الأمر بمثابة حلم بالنسبة لي، وحين تحقق أردت استكمال المشوار وتتويج مسعاي بحلمٍ آخر ظل يتأجل لسنوات حتى رأيت إمكانية العودة إليه من جديد، الحلم الثاني كان حلم العمل في الصحافة الرياضية لعشقي الكبير لكرة القدم، ولأن الأمر يحتاج لجهدٍ كبير أردت مشاركة الخطة مع صديقةٍ لي كي تدعم لحظة الانطلاق.. لكن الجملة الأولى التي اختارت أن تخبرني بها: هتركزي في اللغات ولا الفرجة على الماتشات؟ يا بنتي صاحب بالين كداب!

حسنًا.. مر على تلك اللحظة أربعة أعوام تمكنت خلالهم من العمل كما أردت تمامًا، وتعلم اللغة التي أردتها بنفس الوقت، دون أن يسرق أحدهما وقت الأخر، الأمر وما فيه أنني لم املك وقت فراغ أو راحة، والحقيقة أنني لم أشعر بالتعب كي أرتاح، كان الأمرين عبارة عن احلام منفصلة، احتجت لبلوغهما معًا.. لهذا يحضرني السؤال المُلح في كل مرة أقف فيها في البقعة نفسها.. من قائل هذه العبارة؟ من الكداب الذي ضر أحدهم في لقمة عيشه وجعلنا نحمل هذا الوزر للأبد؟ من الكداب الذي كان مقصرًا مع أهل بيته وجعلنا نستمع لهذا التحذير للأبد؟ من الكداب الذي جعلنا ندفع ثمن كسله وقلة ضميره وعبثه في رسم خطة محكمة؟ من الكداب الذي لا يملك مهارة تقسيم وقته؟ من الكداب الذي لم يتمكن من ملء وقت فراغه وظل يفضل النوم على الأريكة دون السعي وراء ما يريد؟

صاحب بالين.. قد يكون شخصُ ماهر، شخص حالم، شخص لا يكتفي بانتصارٍ صغير، شخص طموحه لا يتوقف، شخص يرغب في العمل والتعلم ومواصلة السعي، شخص يعرف كيف يخطط، كيف يكون هنا وله أثرًا هناك، كيف يتخذ قرارين بدلًا من قرارٍ واحد.. تلك الجملة التي تطاردنا جميعًا بسبب استخدامها في غير موضعها يجب أن تقف عند حدها، وتعرف أن فعاليتها الوحيدة أنها يمكن أن تقال في موقف يخص مشاعر بشر غيرنا، لكن ما يخص الأحلام والمهارات أظن أن صاحب البالين القادر على التوفيق بينهما.. بطلًا نتركه وشأنه.. وإلا سيسعى وراء شغل نفسه ببالٍ ثالث ورابع.

أكتب إليكم وأنا أستمع إلى مقطوعة جاز أحبها، أظنني صاحبة بالين الآن.. لكني لست بكاذبة يا جدتي.

أضف تعليق