٨٠ باكو عمل درامي يسلط الضوء على فئة المهمشين

٣١ مارس ٢٠٢٥
د. رانيا عبد الرؤوف*

ننطلق في هذا المقال من تساؤل الناقدة والمفكرة الهندية “جاياتري سبيفاك Gayatri Spivak” هل يستطيع التابع أن يتكلم”؟

حيث تردد ذلك التساؤل كثيرًا على ذهني أثناء مشاهدتي لمسلسل 80 باكو الذي يُطّلعنا على العالم الخفي للنساء؛ خاصة هؤلاء اللواتي يعشن على هامش الحياة ولا صوت لهن. يعشن تحت خط الفقر؛ ويتلاشى ضجيجهن وسط الزخم المجتمعي؛ تلك الفئات المهمشة التي لا يلحظهن أحد ولا يُلقَى لهن بال. 

يأخذنا 80 باكو في رحلة مليئة بالألم والمتعة؛ نتعرف على أحلام هذه الفئة وتطلعاتها، ونكتشف حقيبة الآمال والمخاوف التي تحملها كل امرأة فوق كاهلها. نتعرف على أحلامهن ونشاركهن في الخيبات.

ليصبح ذلك العمل الدرامي مدخلًا نتلصص من خلاله على مشاكلهن، وأسرارهن، ونسترق السمع إلى حكايتهن. بمجرد فتح باب صالون التجميل (الكوافير) ينفتح أمامنا ذلك العالم الخفي بأسراره وتأخذنا الحكايات إلى ما خلف تلك الأبواب المغلقة؛ إلى الدرجة التي يصبح فيها المشاهد جزءًا من الحدث. وقد تحقق ذلك من خلال الحميمية التي أوجدها المسلسل مع المتلقي، وظهر جليًا في اختيار الكادرات واللقطات التي أسهمت في خلق حالة من التفاعل مع الجمهور. 

 إذ أضافت حركة الكاميرا للأمام  Dolly in عُمقًا للأماكن، تتناسب مع فكرة العمل الفني التي تكشف الستار عن ذلك المجتمع النسائي، كما أنها منحت المتفرج إحساسًا بأنه يتحرك داخل المشهد؛ ليكون المتلقي بذلك جزءًا فاعلًا من العمل وليس مجرد متلق سلبيًا.

وعليه، فقد أصبح صالون التجميل مدخلًا لعالم أوسع أغلبه من النساء بتعدد فئاته وطبقاته. ليتم تسليط الضوء من خلال حكاياتهن إلى قضايا المرأة مثل؛ العنف المجتمعي والأسري، والتمييز الجندري، والتنميط الثقافي. وقد تم طرح تلك القضايا في قالب كوميدي تم الاستناد فيه إلى رسم الشخصية وتوظيف سماتها المميزة لتكون هي المصدر الرئيس للفكاهة.

ولا يمكن إغفال عنصر الأداء التمثيلي الذي كان له دور كبير في خلق حالة من المصداقية لدى المشاهد وتعاطفه مع الشخصيات.  اتضح ذلك في الاهتمام بتفاصيل كل شخصية؛ التي تجسدت في الملابس، ولون الشعر، وحركات اليد، وطريقة الحديث، ونبرة الصوت، حتى طريقة مضغ الطعام. مما أضاف واقعية على الأداء التمثيلي جعلتنا نتوحد مع الشخصيات، ونستمع إلى نبضات قلبهم المتسارعة، وصوت لهاثهم، بل ونميز رائحة الأماكن التي يعيشون فيها. كما قد شكلّت البطولة الجماعية والاستعانة بضيوف شرف في كل حلقة حالة من الإثارة والتشويق، كما أثرى العمل على مستوى الحبكة وتطورها وأضاف أبعادًا  درامية. مما أسهم في خلق إيقاع متوازن وأحداث مشوقة حافظت على انتباه المتلقي وتفاعله.

وكان للصورة المشهدية في نهاية الحلقة الأخيرة دورًا لا يستهان به في طرح تيمة المسلسل؛ وذلك من خلال انتقال الكاميرا من لقطة واسعة تظهر فيها مدام لولا صاحبة صالون التجميل برفقة الفتيات الثلاث، اللواتي يعملن معها، وهن يجلسن في الحديقة يتناولن الطعام، إلى لقطة بانورامية  تُهيمن عليها ضحكاتهن وحكاياتهن التي تشكل خلفية المشهد. ولم يكن هذا الانتقال البصري عفويًا، بل حمل دلالة سيميولوجية عميقة: فصوت هؤلاء النسوة، اللواتي يحتللن هامش الحياة ويعشن على أطراف المجتمع، هو صوتٌ حاضر، مؤثر، ولا بد من الإصغاء إليه والانتباه له.

ولذا يبقى التساؤل المطروح هنا عن عنوان المسلسل؛ 80 باكو، بما أن العنوان يعدّ عتبة العمل الفني التي نلج منها إلى عالم شخصياته والحبكة الدرامية وقضاياه التي يطرحها. فكان من الأفضل أن يكون العنوان معبّرًا بشكل أكبر عن الحدث الدرامي الرئيس، وعن ذلك المجتمع الخفي من النساء. لا أن يعبر فقط عن قضية تخص شخصية واحدة فقط في العمل؛ خاصة وأن البطولة في هذا المسلسل كانت بطولة جماعية. 

لكن ذلك لا ينفي أبدًا أن هذا العمل الفني يعدّ صوتًا لمن لا صوت لهم؛ صوتًا لتلك الفئة المهمشة التي لا تحتل صدارة المشهد، هؤلاء اللاتي يعشن على هامش الحياة رغم أنهن يشكلون جزءًا كبيرًا من نسيجها المجتمعي.

د. رانيا عبد الرؤوف، مدرس الدراما والنقد المسرحي، جامعة عين شمس*

أضف تعليق