٢٢ نوفمبر٢٠٢٥
د. هالة هاشم غنيم
اللي خلف ماماتش؛ عبارة شعبية مصرية تختزل فكرة عميقة عن امتداد الإنسان في أبنائه، وعن مسؤولية الأبناء في حمل الرسالة والقيمة قبل الاسم واللقب. ورغم أن الوعي الشعبي كثيرًا ما يربط هذا الدور بالأبناء الذكور، فإن سيرة بنات الفنان والطبيب المصري المغترب منير يوسف عقداوي تقدّم نموذجًا باهرًا لكيف تستطيع الفتيات أن يخلّدن ذكرى آبائهن عبر حفظ تراثهم الإبداعي والتعريف به على أوسع نطاق.
وُلِد الفنان منير يوسف عقداوي في مدينة المنصورة عام ١٩٣٠، لأسرة مثقفة؛ فهو ابن الدكتور جورج عقداوي والسيدة ماري عقداوي، وله أختان تكبرانه وأخ أصغر. نشأ منير في بيت يُعلي من شأن العلم، خاصة تعليم النساء، وهو ما تجسّد في مواقف والده الذي دعم بقوة تعليم الفتيات وشجّع ابنته الكبرى، سوزان عقداوي، على دراسة التمريض. وقد أصبحت سوزان لاحقًا شخصية بارزة في مجال العمل الخيري، وأسهمت في العديد من المبادرات الإنسانية، بينها مشاركتها في الأعمال الخيرية التي أطلقها والدها، فنالت تكريم السيدة جيهان السادات وعدة ميداليات تقديرًا لعطائها في خدمة المجتمع.
لم يكن منير بعيدًا عن هذه القيم؛ فقد عُرف هو الآخر بدفاعه الواضح عن حق المرأة في التعليم، وارتبطت مسيرته الفنية والفكرية بقناعة راسخة بأهمية تمكين النساء ودورهن في بناء المجتمع. امتد أثر هذه الروح التنويرية إلى الأجيال التالية في عائلة عقداوي؛ فقد رُزق الدكتور جورج بثلاثة أحفاد وست حفيدات. أصبحت إحدى حفيداته، ماجدة عقداوي، طبيبة، فيما حصلت ثلاث حفيدات أخريات على درجة الدكتوراه وهن: سارة عقداوي، وأماندا عقداوي، ومونا عبد العزيز عطية التي رحلت في سن مبكرة بشكل مأساوي، تاركةً ابنتين صغيرتين تعملان اليوم مهندستين كيميائيتين. كما أصبح بعض أحفاده مهندسًا ومدرّسًا وقاضيًا، في حين نالت إحدى حفيداته، أليس، درجة الدكتوراه أيضًا.
وقد سار عدد من أفراد العائلة على خطى منير في مجال الصحة النفسية؛ إذ تخصّصت اثنتان من بناته في هذا المجال: الدكتورة أماندا كينان، أخصائية العلاج النفسي للأطفال، وإيزابيل عقداوي، أخصائية علم النفس السريري، كما تابعت حفيدته الكبرى الدكتورة أليس كينان المسار نفسه، متخصّصةً بدورها في علم النفس السريري. هكذا تشكّل إرث منير عقداوي الإنساني والفكري عبر أجيال متعاقبة حملت الراية في مجالات التعليم، الطب، القضاء، الهندسة، والصحة النفسية
المرأة في حياة منير ولوحاته
التحق منير بكلية الطب في جامعة الإسكندرية، وفي موازاة تكوينه الطبي لم يتخلَّ عن شغفه الأول: الفن التشكيلي. واصل الرسم بتفرغ وانضباط، وتلقّى دروسًا في «أتيلييه الإسكندرية» الشهير، حيث أُقيم أول معرض فردي له بعد تخرّجه عام ١٩٥٣.
في ربيع العام نفسه، غادر منير مصر متوجهًا إلى دبلن، حيث عمل في مستشفى روتوندا ونال مؤهلات في طب النساء والتوليد وعلم الأدوية، قبل أن يختار التخصّص في الطب النفسي. في تلك الفترة استأجر مرسمًا من السيدة هيرون، ابنة المناضل الأيرلندي جيمس كونولي الذي أُعدم لدوره في انتفاضة عام ١٩١٦. أتاح له ذلك الوسط الاستثنائي أن يرسم عددًا من كبار السياسيين الأيرلنديين، من بينهم إيمون دي فاليرا. انتقل بعد ذلك إلى «مستشفى رويال إدنبرة [النفسي]»، ثم واصل مسيرته المهنية في بريطانيا إلى أن صار من الأسماء البارزة في مجال الطب النفسي المجتمعي وإعادة التأهيل، بالتوازي مع تطوّر تجربته الفنية.
عام ١٩٥٧، التقى منير بحب حياته باميلا تووب، أخصائية العلاج الوظيفي والحِرَفية ذات المهارة العالية، والتي علّمته لاحقًا تقنيات النحت. تزوّجا ورُزقا بثلاث بنات: سارة، أماندا، وإيزابيل. في تلك السنوات رسم منير بعضًا من أجمل لوحاته الفردية والمزدوجة، خصوصًا لوحاته مع بام التي شكّلت محورًا إنسانيًا وفنيًا في مسيرته. وفي يناير ١٩٧٨، وبعد نحو عشرين عامًا من زواجهما، توفيت بام عن عمر يناهز الرابعة والأربعين جرّاء السرطان، تاركة أثرًا عميقًا في لوحاته وفي حياة بناته. لذلك لم تكن المرأة عنصرًا عابرًا في عالم منير عقداوي التشكيلي؛ فقد كانت الأم والأخت والزوجة والابنة، كما حضرت بقوة في أعماله عن المرأة المصرية. وقد التقطت بناته هذه الخيوط الإنسانية في تجربته، فجمعن عددًا من أعماله في تقويم لعام ٢٠٢٦ بعنوان «نساء من مصر»، ليكنّ بذلك امتدادًا بصريًا ورمزيًا لنظرته المحبة للمرأة ودورها في الحياة والفن.
فنان لا يتوقف… وطبيب في خدمة الإنسان






لم يتوقّف منير عن الرسم قطّ؛ كان يستيقظ في الخامسة صباحًا كل يوم ليرسم قبل ذهابه إلى عمله. وبفضل تشجيع زوجته بام، جرّب العمل في خامات متعددة، من بينها الخشب والنحاس، وعملا معًا على صنع دمى خشبية بأزياء تاريخية ومعاصرة. تجمع أعماله المبكرة بين البورتريهات – في الغالب لأفراد العائلة والأصدقاء – ولوحات مستوحاة من حياة المسيح. استلهم منير في مسيرته الفنية الأيقونات القبطية ولوحات الفيوم، وتأثر في الفن الحديث بكل من بيكاسو وفرانسيس بيكون، بينما انصبّ اهتمامه في أعماله المتأخرة على البورتريه، مركزًا على ذكرياته عن مصر في أربعينيات القرن العشرين، بحنين واضح إلى الوطن الأم. في عام ٢٠٢٣، وبعد خمسة وأربعين عامًا ويوم واحد على وفاة بام، رحل منير عقداوي متأثرًا بمرض كوفيد-19، تاركًا خلفه إرثًا فنيًا وإنسانيًا ثريًا، ومسؤولية أخلاقية وعاطفية كبرى على عاتق بناته.
بناته… حين تتحول البنات إلى حارسات للذاكرة

عند هذه النقطة يبرز المثل «الشخص الذي قد أنجب لم يمت» في أبهى تجلّياته؛ فبناته الثلاث، وفي مقدمتهن سارة – الباحثة بجامعة أكسفورد – لم يتعاملن مع إرث والدهن كذكرى عائلية خاصة، بل كمشروع ثقافي وفني عام يستحق أن يُعرَف وأن يُدرَس. حملت سارة وأماندا وإيزابيل مسؤولية حفظ أرشيف والدهن الفني العملاق، فعملن على توثيق أعماله بدقة، وتمكّنّ حتى الآن من تسجيل نحو ٩٠٠ عمل فني من لوحاته ورسوماته وأعماله في الخشب والنحاس وغيرها. كما أنشأت سارة موقعًا يحمل اسم «فن منير عقداوي» للتعريف بسيرته وأعماله وإتاحة جزء معتبر من إنتاجه للجمهور والباحثين على حد سواء. إلى جانب ذلك، تحافظ الشقيقات عقداوي على تواصل مستمر مع عدد من كبريات المؤسسات الفنية والثقافية في مصر وخارجها، من بينها الجامعة التقنية في دريسدن، والجامعة الأمريكية، والاستوديو الدنماركي في «بيت يكن»، وذلك لإهداء بعض أعمال والدهن وأجزاء من أرشيفه الفني والعائلي، بهدف إدماجه في الذاكرة المؤسسية للفن الحديث، وليس الاكتفاء بالذاكرة العائلية المحدودة.
غير أن حلمهن الأكبر يظل أن يجد منير عقداوي مكانًا مستحقًا في الذاكرة الفنية والثقافية لوطنه الأم، مصر، من خلال اقتناء عدد من أعماله وعرضها في متاحف ومعارض الفن الحديث التابعة لوزارة الثقافة والمؤسسات الرسمية، بحيث يصبح حاضراً في المخيال البصري للأجيال الجديدة كما كان حاضرًا في ذاكرة عائلته ومرضاه وأصدقائه.
في ضوء هذه السيرة، لا يبدو أن منير عقداوي قد رحل فعلاً؛ فحياته الممتدة في لوحاته، وفي ذاكرة مرضاه، وفي أرشيفه الفني، إنما تتجسّد اليوم في الجهد الدؤوب الذي تبذله بناته الثلاث. لقد ضربت سارة وأماندا وإيزابيل مثالًا ملهمًا لكل الفتيات – بل ولكل الأبناء – في كيفية تكريم ذكرى الآباء: ليس فقط بالبكاء عليهم، بل بحفظ أعمالهم، واستكمال رسالتهم، وتحويل الحب الشخصي إلى مشروع ثقافي حيّ يضيف إلى الذاكرة المصرية والإنسانية معًا.



