الجمعة ٢٨ نوفمبر ٢٠٢٥
د. أماني عبدالوهاب – محام

في السنوات الأخيرة، لم تعد الجرائم التي يرتكبها بعض الأطفال مجرد “مشاجرات طفولية” أو“سلوكيات عابرة”، الواقع تغيّر، وقسوة المشاهد التي تتكرر على المجتمع المصري جعلت السؤال أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى: هل يواكب قانون الطفل المصري طبيعة الجرائم الحديثة؟ وهل نملك فعلاً تشريعًا يضمن عدالة تحمي الصغير ولا تترك صغيرًا آخر بلا رادع؟
هذا السؤال سؤال يوجه بطبيعته لمجتمع بأكمله يعيش بين طفلٍ أصبح ضحية وطفلٍ آخر بات فاعلً الجريمة لم يكن ينبغي لعمره أن يعرفها أصلًا؛ وبي نهذه الثنائية المريرة، يقف قانون الطفل حائرًا،محاولًا بدوره التوفيق بين حماية القُصّر من قسوة العقاب، وبين حماية المجتمع من خطورة بعض الجرائم التي أصبحت تتجاوز حدود عمر مرتكبيها.
القانون الذي وُلِد قبل أن تتغيّر الجرائم
قانون الطفل المصري- رغم ما طرأ عليه من تعديلات- صيغ في زمن كانت فيه الجريمة داخل المجتمع مختلفة في طبيعتها وحدّتها؛ حيث كان الطفل يُرى كحالة تستحق العناية والرعاية لا العقاب، وكان الهدف إصلاحه قبل مساءلته.
لكن الواقع اليوم أصبح أكثر تعقيدًا، فهناك أطفال يرتكبون جرائم خطيرة تمتد من الاعتداء بكافة صوره ومنها الاعتداء الجنسي إلى القتل العمد وإلى العنف الجماعي والتنمر. ومع ذلك، يبقى القانون يتعامل معهم باعتبارهم “ناقصي التمييز” أو “قيد التهذيب”، ويضع سقفًا للعقوبة لا يعكس حجم الجريمة ولا آثارها.
فالقانون الحالي يعتبر الطفل شخصًا غير مسؤول جنائيًا بالكامل حتى بلوغ الثامنة عشرة، ويضع مراحل مختلفة للمسؤولية تبدأ من سن الثانية عشرة؛إلا أن تلك الحدود لم تعد تتناسب مع الواقع الاجتماعي ولا النفسي ولا الجنائي للأطفال اليوم.
بين حماية الطفولة وحماية المجتمع
إن النقاش حول تعديل قانون الطفل ليس نقاشًا بين متعاطفين مع الجناة وبين دعاة العقاب، بل هو نقاش حول اتزان دقيق وحقيقي بين حق الطفل في الحماية وحق المجتمع في الأمن. فالطفل الجاني- مهما كان طبيعة فعله – ليس مجرد “مجرم صغير”، بل هو نتاج مجموعة متكاملة من العوامل ( بيئة، وأسرة، و إهمال وإغفال، أو تجارب صادمة). لكن في المقابل،الضحية أيضًا طفل لديه الحق في العدالة، وحق أهله في الاطمئنان أن القانون لم يخذلهم.
فمن الظلم أن يتحول الطفل الجاني إلى“وحش”في نظر المجتمع،ومن الظلم أيضًا أن يتحول الطفل الضحية إلى“قضية عابرة”.
ولهذا جاءت الدعوة إلى إصلاح تشريعي متوازن وعادل، يعيد صياغة مفهوم المسؤولية الجنائية لدى الطفل وفق معايير علمية، لا وفق تصور عاطفي عنا لطفولة.
السن الجنائي سؤال يحتاج إلى شجاعة تشريعية
المطالبة بإعادة النظر في سن المسؤولية الجنائية ليست دعوة إلى “معاقبة الأطفال” كما قد يظن البعض، بل هي دعوة إلى تحديد دقيق لسن التمييز الحقيقي؛ ووضع آليات تقييم نفسي و إكلينيكي قبل إصدار أي أحكام.
وكذلك التفريق بين طفل ارتكب خطأ بدافع الطيش،وطفل ارتكب جريمة تتسم بالخطورة أو التخطيط.فالقانون الحالي يعتمد على معيار “السن” وحده،بينما تؤكد الدراسات النفسية والاجتماعية أن النضج الإدراكي والعقلي والسلوكي يختلف بشدة من طفل لآخر، وأن بعض الأطفال قادرون على استيعاب خطورة أفعالهم واتخاذ قرارات جرمية واعية.
إذن المشكلة ليست في تشديد العقوبة بل في تشخيص الطفل الجاني تشخيصًا حقيقيًا قبل تصنيفه على أنه ناقص التمييز أو كامل التمييز.
أدلة وخبراء… قبل نصوص القانون
من المتطلبات العاجلة لأي تعديل تشريعي أن يعتمد القضاء في قضايا الأطفال على:
1. لجان تقييم نفسي إجباري قبل الإحالة لأي محاكمة.
2. تقارير اجتماعية دقيقة عن الأسرة والبيئة الخلفية للطفل.
3. وحدات متخصصة داخل محاكم الطفل، قادرة على تحليل السلوك الإجرامي لا مجرد تطبيق النص.
4. تمييز بين الجرائم: فهناك جرائم لا تتناسب معال حدّ الأدنى للعقوبات الحالية.
إن العدالة الحقيقية تبدأ من الفهم لا من العقاب وحده، ونشر الوعي ليس رفاهية بل خط دفاع أول..
فقدرة الدولة على حماية الأطفال ليست مرهونة بالقانون وحده، بل بمدى نشر وانتشار الوعي فيكل من المدارس، ومراكز الشباب، والنوادي، والأماكن العامة، ومنصات الإنترنت التي أصبحت فضاءً يطلق فيه الأطفال سلوكيات لا يراقبها أحد
والوعي بالقانون لا يقل أهمية عن القانون نفسه، فكم من جريمة بدأت من غياب التوجيه؟ وكم من مأساة كان يمكن تفاديها بقليل من المعرفة؟
إن تكثيف ونشر حملات ومبادرات توعية منظمة، تُدرّس فيها حقوق الطفل، وطرق حماية النفس،وحدود العقاب، وأخطار التنمر والعنف، قد تنقذ أرواحًا قبل أن تُنقذ قوانين.
الإصلاح التشريعي مسؤولية مجتمع بأكمله
إن تعديل قانون الطفل ليس حربًا ضد الأطفال، بل هو حرب من أجلهم؛ حتى لا يتحول طفل إلى قاتل، ولا يتحول آخر إلى ضحية. فنحتاج إلى قانون يحمي لا يُبرر، ويُردع لا ينتقم، ويُصلح دون أن يهمل حقوق المجتمع، ويوازن بين براءة الطفولة وخطورة الفعل، ويستند كذلك إلى العلم لا إلى العطف فقط.
فالعدالة التي لا تحمي الصغير هي عدالة ناقصة، والعدالة التي لا تردع صغيرًا آخر هي عدالة متأخرة؛ وبين هذين الحدّين، تقف مصر اليوم أمام فرصة تشريعية تاريخية لإعادة صياغة قانون الطفل بما يليق بحقوق طفولة أبنائنا، وأمان أُسرنا، ومنطق الدولة الحديثة التى تعرف ان حماية طفل هى حماية وطن
