٢٤ ديسمبر ٢٠٢٥
سيدات مصر
د. راندا مصطفي الديب، أستاذة متخصصة في أصول تربية الطفل بكلية التربية جامعة طنطا، هي مؤسسة مبادرة “ابني ابنك صح” التي تحمل شعار: “التربية مش سهلة… بس مستاهلة”. شغلت سابقًا منصب مديرة مركز رعاية وتنمية الطفولة بالكلية خلال الفترة من 2016 حتى 2020، وفي عام 2022 تم تعيينها مديرة وحدة مناهضة العنف ضد المرأة بجامعة طنطا.
د. راندا الديب تعمل أيضًا كمحكم في المجلس الأعلى للجامعات المصرية في تخصص الطفولة ورياض الأطفال، بالإضافة إلى التحكيم في المجلات العلمية بالجامعات المصرية وبعض المسابقات المحلية والعربية. كما تشغل منصب رئيس مجلس الأمناء بمدارس العهد الحديث الخاصة (عربي) بالمحلة الكبرى.
نشرت د. الديب العديد من البحوث وأوراق العمل حول موضوعات مثل التحرش الجنسي، حقوق الطفل السياسية، الإتيكيت لدى أطفال الروضة، واستجابات الأمهات للسلوكيات الجنسية، بالإضافة إلى عدة كتب في مجال تخصصها.
سيدات مصر: كيف ترين تطوّر ظاهرة العنف الرقمي خلال السنوات الأخيرة؟
راندا الديب: تطورت ظاهرة العنف الرقمي بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة ؛ وهذا بسبب توسع استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي ، زادت فرص العنف الرقمي ؛ حيث أصبحت التكنولوجيا متاحة للجميع مما جعل المنصات الرقمية مسرحًا أساسيًا للتفاعلات الايجابية والسلبية.
س م: من الفئات النسائية الأكثر عرضة للعنف الرقمي في مصر والعالم العربي؟
ر د: من الفئات النسائية الأكثر عرضة للعنف الرقمي في مصر والعالم العربي، تأتي الفتيات المراهقات والشابات في مقدمة هذه الفئات، والنساء المشاركات في العمل العام مثل: الصحفيات والناشطات، النساء المتزوجات، والنساء المهمشات اجتماعيًا أو اقتصاديًا
س م: كيف يمكن للأسرة اكتشاف تعرض ابنتها للعنف الإلكتروني في وقت مبكر؟
ر د: هناك علامات واضحة تساعد الأسرة علي اكتشاف تعرض ابنتها للعنف الإلكتروني مبكرًا ومنها تغير مفاجئ في استخدام المحمول أو الإنترنت فمثلًا إغلاق الشاشة بسرعة كبيرة عند دخول أحد عليها ، قضاء وقت طويل علي المحمول أو تجنب المحمول فجأة .
تغير واضح في المزاج فمثلًا بكاء أو نوبات غضب بدون سبب واضح، رغبة في البقاء بمفردها ، توتر مستمر. تراجع في الأداء الدراسي أو الوظيفي ويظهر واضحًا في انخفاض التركيز أو النوم لفترات طويلة جدًا أو قصيرة جدًا ، فقدان الاهتمام بالدراسة أو بالوظيفة.
قلق أو خوف مبالغ فيه : الخوف من الإشعارات أو الرسائل التي تصل علي الموبايل. تغير في العلاقات الاجتماعية توتر واضح في العلاقة مع الأصدقاء أو الانقطاع عن صديقات كانت تحبهن.
تغير في صورة الذات فمثلا أصبحت تقول كلام سلبي عن نفسها، تشكيك دائم في شكلها أو قدراتها نتيجة تعليقات سيئة لها علي الإنترنت.
س م: كيف يمكن للمربين والمعلمين اكتشاف علامات تعرض طالبة للعنف الرقمي؟
ر د: يستطيع المربون والمعلمون لعب دور مهم في اكتشاف تعرّض الطالبة للعنف الرقمي، خاصة أن كثيرًا من الطالبات لا يفصحن عمّا يتعرضن له خوفًا من اللوم أو التشكيك. لذلك يعتمد الاكتشاف المبكر على ملاحظة أي تغيّر في السلوك، أو المستوى الدراسي، أو طبيعة العلاقات داخل المدرسة أو الجامعة.
قد يظهر تعرض الطالبة للعنف الرقمي من خلال تغيّر مفاجئ في سلوكها، مثل الانعزال، ضعف المشاركة داخل الفصل، أو التوتر الواضح أثناء الحصص. أحيانًا يلاحظ همس أو ضحك جماعي عند ذكر اسمها، وقد تتردد في استخدام الهاتف أو الحاسوب، وتبدو قلقة عند وصول إشعارات، أو تُغلق الجهاز بسرعة عند مرور المعلم.
كما قد تظهر مؤشرات مزاجية مثل القلق المستمر، البكاء المفاجئ، أو الانفعالات العصبية، وينعكس ذلك على أدائها الأكاديمي بتراجع الدرجات، نسيان الواجبات، صعوبة التركيز، أو الغياب المتكرر لتجنب زملاء معينين.
تتغير علاقاتها الاجتماعية أيضًا، مثل قطع علاقات فجائية مع صديقات مقرّبات، الجلوس وحيدة، التعرض لتنمّر غير مباشر أو انتشار شائعات رقمية عنها. أحيانًا تظهر مؤشرات رقمية مباشرة من خلال رفضها استخدام مجموعات أو منصات التواصل، أو عبر إشارات من الأهل أو زميلات تشير لتعرضها لمضايقات على الإنترنت.
.س م: كيف ترى د. راندا دور المبادرات المجتمعية مثل مبادرة “ابنٍ ابنك صح” في مواجهة العنف الرقمي؟
ر د: أصبحت المبادرات المجتمعية خط الدفاع الأول في مواجهة العنف الرقمي، ومبادرة «ابنِّ ابنك صح» نموذج عملي لذلك، بشعارها: «التربية مش سهلة بس مستاهلة». تهدف المبادرة إلى رفع الوعي الرقمي لدى الأسر والشباب، من خلال تعليم الأهل فهم مخاطر الفضاء الرقمي وأدوات الحماية، وبناء علاقة آمنة وصحية مع الأبناء، وتعزيز ثقافة الاستخدام الرشيد للإنترنت بدل المنع.
كما تركز على تمكين الفتيات نفسيًا ورقميًا عبر ورش عمل وندوات تعلمهن اكتشاف التحرش والابتزاز مبكرًا، والتعامل معه بثقة، وطلب المساعدة بشكل صحيح. إلى جانب ذلك، تُعنى بتعليم الأطفال والشباب الإتيكيت الرقمي، ودعم الأهالي في التواصل الآمن مع أبنائهم، وتشجيع الحوار داخل الأسرة كأقوى وسيلة حماية.
تسعى المبادرة أيضًا لخلق بيئة مجتمعية مساندة، بدل ثقافة اللوم، وأرى أن نجاح هذه الجهود يعتمد كذلك على التعاون مع المؤسسات التعليمية والمجتمع المدني، من مدارس وجامعات ومراكز شباب وإعلام مسؤول، بهدف بناء شبكة دعم متكاملة. ويبقى الهدف النهائي للمبادرة هو إعداد جيل رقمي واعٍ وقادر على استخدام التكنولوجيا بمسؤولية، لا أن يكون ضحية لها.
س م: ما النصائح التي تقدمينها لامرأة تتعرض حاليًا لعنف أو ابتزاز رقمي؟
ر د: أول ما يجب أن تعرفه أي امرأة تتعرض لعنف أو ابتزاز رقمي هو أنها ليست وحدها، وليست مذنبة، وأن ما تتعرض له جريمة لها حلول قانونية وآمنة. فالمبتز يعتمد على شعورك بالخوف والذنب، وليس على الحقيقة.
أول خطوة عملية هي عدم الاستجابة للمبتز بأي شكل: لا رد، لا تفاوض، ولا إرسال أي معلومات أو صور إضافية، لأن أي تفاعل يمنحه مزيدًا من السيطرة. في الوقت نفسه، من الضروري الاحتفاظ بكل الأدلة مثل لقطات الشاشة، الرسائل، روابط الحسابات، أرقام الهواتف أو البريد الإلكتروني المستخدم، فهي أساسية للإبلاغ القانوني.
بعد ذلك، يجب إغلاق وسائل التواصل مع المبتز، ضبط الخصوصية، تغيير كلمات المرور، وتفعيل المصادقة الثنائية، دون حذف الأدلة. من المهم أيضًا عدم مواجهة الأزمة وحدك، بل إبلاغ شخص موثوق مثل صديقة، أحد أفراد الأسرة، أو مختصة اجتماعية أو نفسية، فالاستعانة بالدعم تقلل الخوف والضغط النفسي.
الإبلاغ القانوني خطوة حماية، وليس فضيحة، ويوقف المبتز ويمنع تكرار الجريمة. في مصر والدول العربية توجد جهات رسمية للتعامل مع العنف الرقمي مثل مباحث الإنترنت، المجلس القومي للمرأة، وخطوط نجدة الطفل. وأخيرًا، لا تلومي نفسك، واطلبي الدعم النفسي عند الحاجة، فكسر الخوف هو أسرع وسيلة لإسقاط سلاح المبتز.

س م: كيف يمكن توظيف التكنولوجيا نفسها في حماية المرأة بدلًا من إيذائها؟
ر د: أؤمن أن التكنولوجيا ليست الخطر بحد ذاتها، بل الخطر يكمن في غياب الوعي. فهي لا تُستخدم ضد المرأة إلا حين تكون وحيدة، أما بالمعرفة والمهارات والدعم، فتتحول إلى أداة حماية وتمكين.
يمكن استخدام نفس الأدوات التي تُستغل للإيذاء لبناء أمان رقمي قوي، مثل تطبيقات الحماية والاستغاثة التي تسمح بمشاركة الموقع، والتسجيل التلقائي عند الخطر، وإرسال تنبيهات فورية، إضافة إلى ضبط الخصوصية، المصادقة الثنائية، وكلمات المرور القوية، والتحكم في الوصول للمحتوى والمعلومات الشخصية. كما توفر المنصات الرقمية آليات سريعة للإبلاغ عن التحرش وحذف المحتوى المسيء، وتجميد حسابات المعتدين، لتصبح التكنولوجيا درعًا لا تهديدًا.
تسهم تقنيات الذكاء الاصطناعي في رصد خطاب الكراهية والتعليقات المسيئة، وحماية حسابات الأطفال والفتيات، بينما توفر المنصات الدعم النفسي والاستشارات القانونية بشكل آمن. وباستخدام التكنولوجيا للتعلم ونشر الوعي الرقمي، تصبح المرأة أقوى وأصعب استغلالًا أو ابتزازًا.
س م: ما رسالتكِ للمرأة التي تخاف من الإبلاغ؟
ر د: رسالتي لكل امرأة تخاف من الإبلاغ هي أن الخوف شعور طبيعي، لكنه لا يحميكِ. الحماية الحقيقية تبدأ بالإبلاغ، فهو قوة واستعادة للكرامة، وليس بداية لمشكلة جديدة.
تذكّري دائمًا أنكِ الضحية ولستِ الجانية. القانون في صفكِ، والجهات المختصة تتعامل بسرية تامة، كما أن وعي المجتمع أصبح أكبر من ذي قبل. الإبلاغ لا يعرّضكِ للفضيحة، بل يوقف المبتز ويمنعه من تكرار جريمته معكِ أو مع غيركِ.
المبتز يعتمد على خوفكِ فقط، وعندما تتخذين خطوة واحدة نحو الإبلاغ، يبدأ هذا الخوف في الانهيار. قولي لنفسكِ: «كرامتي أغلى، وصمتي لن يحميني، لكن حقي سيحميني».
لا تخافي، فأنتِ أقوى مما تتصورين، واللحظة التي ترفعين فيها صوتكِ هي اللحظة التي يبدأ فيها المبتز بالانكسار. وإن احتجتِ دعمًا، فهناك مبادرات وخطوط مساعدة ومؤسسات جاهزة لمساندتكِ في هذه الخطوة، ولن تكوني وحدكِ.
س م: وما رسالتك ِ للمجتمع في يوم مناهضة العنف ضد المرأة؟
ر د: رسالتي للمجتمع اليوم واضحة: نحن لا نحيي مناسبة عابرة، بل نجدد مسؤولية مشتركة. فالعنف ضد المرأة ليس قضية نسائية، بل قضية مجتمع كامل، لأن المجتمع الذي يسمح بالعنف يضعف نفسه من الداخل.
احترام النساء ليس خيارًا، بل هو أساس الحضارة، والسلام الأسري، والاستقرار الاجتماعي. فكل كلمة جارحة، وكل تعليق ساخر، وكل تبرير للعنف، وكل صمت أمام الخطأ، يوسّع دائرة الألم ويُطيل أمده.
ومواجهة العنف ليست مسؤولية القانون وحده، بل مسؤولية كل أسرة، وكل مدرسة، وكل مؤسسة، وكل فرد قادر على قول «لا». ومع العصر الرقمي، لم يعد العنف محصورًا في الواقع، بل امتد إلى الشاشات، ما يستدعي وعيًا جديدًا وثقافة رقمية آمنة، وتربية قائمة على الاحترام لا السيطرة، ومجتمعات تساند الضحية بدلًا من لومها.
س م: كيف تتمنين أن يكون وعي الأمهات في المستقبل بشأن حماية أبنائهن رقميًا؟
ر د: أتمنى أن يصل وعي الأمهات إلى اعتبار الأمان الرقمي جزءًا طبيعيًا من التربية اليومية، كما نهتم بصحة أطفالنا ودراستهم وسلوكهم. الأم الواعية تفهم التكنولوجيا، تعرف مخاطرها وفرصها، وتستخدم المعرفة بدل المنع، وتربي بدل السيطرة، مع بناء علاقة ثقة مع أبنائها ليتمكنوا من التحدث بصراحة عن أي موقف مضايق على الإنترنت.
من المهم أن تمتلك الأم الحد الأدنى من الثقافة الرقمية، مثل إعدادات الخصوصية، كلمات المرور، آليات الإبلاغ، وفهم منصات التواصل ولغة الجيل الجديد. لكن الأهم هو تحصين الأطفال بالقيم قبل القواعد، ليعرفوا ما الذي يشاركونه، وكيف يحترمون أنفسهم والآخرين رقميًا، وكيف يتحكمون في وقتهم وهويتهم.
يجب أن تدرك الأم أن العنف الرقمي يبدأ بالتربية، وأن ابنًا مطمئنًا وابنة واثقة وأسرة متواصلة هي أقوى أدوات حماية. كما يجب أن ترى التكنولوجيا جزءًا من حياة أبنائها، ومساحة يجب إعدادهم للتعامل معها بأمان، تمامًا كما نعلمهم عبور الشارع أو مواجهة مواقف الحياة اليومية.
رسالتي للأمهات واضحة: الحماية ليست في إبعاد الأطفال عن العالم، بل في إعدادهم ليعيشوا فيه بأمان وثقة. كل أم واعية تخلق طفلًا قادرًا، وكل طفل قادر يصنع جيلًا أكثر أمانًا ورقيًا.


