التنمر .. الكلمة قد تقتل أحياناً

الأحد ٣٠ ديسمبر ٢٠١٨             – كتبت: سلمى محمود

“ليس هناك معاناة أكبر من أن تحمل قصة لم ترو بداخلك ” – مايا أنجلو

face-to-face-bullyingلكل مناحكايته الخاصة بأحداثها وتفاصيلها المعقدة التي لا تشبه حكايات الآخرين، حكاية عالقة في الذاكرة لا يعلم تفاصيلها احد، لا نستطيع البوح بها حتى لاقرب الناس إلى قلوبنا، نحتفظ بها داخلنا ونجاهد بإخفاءها بعيداً عن الأعين، نعيش العمر في صراع بين أن نبوح بها أو نبقيها في الخفاء حبيسة في صدورنا، ننتظر العثور على الكلمات المناسبة لنخرجها إلى أرض الواقع لربما نستريح ونزيح الهم عن كاهلنا، البعض قد تكون حكايته معاناة طويلة عاشها خسر مقابلها الكثير، أو ذكرى سيئة عالقة في الأذهان، أو ربما موقف مؤلم تُبكيك ذكراه .. قد تختلف فصول حكاية كل منا ولكننا في النهاية ربما نكتشف إنه تجمعنا كلنا قصة واحدة كبيرة بتفاصيل مختلفة.

 مثل الجميع لدي حكاياتي الخاصة التي احتفظت بها لسنوات بداخلي، بقيت اتجنب الحديث عنها واحمل همها وحدي، تؤرقني ذكراها ويرعبني حديثها، انتظر الوقت المناسب لافصح عنها لربما يخفف هذا عني قليلاً، ترددت كثيراً في سردها ربما لانها ليست مساحتى الخاصة لاملائها بأحاديث قد تبدو للبعض “شخصية” أو هراء لا يصلح للنشر، وربما خوفاً من نظرة شفقة وعطف اكره أن المحها في عيون من حولي تزيد من معاناتي، وحتى هرباً من الآف الاسئلة التي قد تنهال على ممن سيقرؤن هذا، لكني في النهاية كل ما أعلمه أن لدي حكاية تريد الخروج إلى النور، لا اظن إن هناك أنسب مني ليحكيها، فربما عندما افعل اكتب بيدي فصل نهايتها وربما تكون تلك النهاية “بداية” قصة جديدة.

 الناس سينسون ما قلت وسينسون ما فعلت ولكنهم لن ينسون كيف جعلتهم يشعرون – مايا أنجلو

كما ورثت عن أبي عصبيته الزائدة عن الحد وعنده الدائم ورثت عنه أيضاً ملامحة السمراء، قسمات وجهه الحادة وأنفه المدبب “الكبير”والذي لم يشكل لي يوماً مشكلة ولكن البعض كان له رأي آخر، مازالت اتذكر ذلك الصباح البارد، عندما كنت في طريقي إلى ،المدرسة برفقة صديقاتي واعترض طريقنا احد الاشخاص وحاول مضايقتنا ولكننا تابعنا طريقنا دون أن نعره اهتماماً وهو ما لم يعجبه لاسمعه يتهامس مع صديقه عن “انفي الذي يشبه الكوب” ثم تنطلق ضحكاتهما ويرحلان، يومها رحلت وبداخلي كتلة من الأسى والغضب، بقيت ليلتي كلها مستيقظة ابكي والعن حظي العثر الذي منح الجميع أنفاً متناسقاً جميلاً ومنحني هذا الانف الكبير الذي يشوه وجهي ويدفعهم للسخرية مني، تحول الامر من مجرد دعابة سخيفة إلى مشكلة واضحة عانيت على اثرها الكثير، كرهت النظر في المرآة ففي كل مرة اقف امامها اشعر وكأنه لم يعد من تفاصيل وجهى سوى انفى الذي اشاهده يكبر يوماً بعد يوم حتى صرت اتجنب النظر فيها تماماً، وصلت إلى درجة البحث عن كل ما يخص عمليات التجميل، تكلفتها، حرمانياتها وحتى مدى نجاحها، تطور الأمر لانني اصبحت اتضايق من والدي لانه تسبب في ذلك، كنت صغيرة لم افهم وقتها انني تعرضت للتنمر، لم افهم معنى كلمة”التنمر” من الاساس، كل ما اتذكر انني تألمت كثيراً بسبب نكتة سخيفة اطلقها احدهم ضحك هو للحظات وتجرعت انا مرارة الحزن والالم لسنوات طويلة.

كانت تلك هي المرة الأولى التي اتعرض فيها للتنمر ولكنها لم تكن ابداً الاخيرة، فالنكتة “البايخة” حول انفي الذي يشبه الكوب تلتها قائمة طويلة من الاساءات والبذاءات ليس عن أنفي فقط وشكله “المفرطح” كما قالت لي أحد اقاربي على سبيل الدعابة ونصيحتها لي بالا اضحك حتى لا يفسد أنفي الصورة، ولكن أيضاً عندما هاجمتني حبوب الشباب في فترة مراهقتي ورغم كونها ظاهرة طبيعية تحدث لجميع من هن في سني الا أن ذلك لم يمنع البعض من مضايقتي والسخرية من شكلى، أيضاً وزني لم يسلم من السنتهم وتشبيه البعض له “بخلة الاسنان”.

 شعرت بالانكسار والانهيار كثيراً، فقدت الثقة بنفسي وشكلى وبمن حولى وخسرت عدداً لا بأس به من الاصدقاء، قضيت أوقاتاً طويلة حبيسة داخل غرفتي ابكي، ادير وجهي عن حديثهم تارة وأرد الاساءة بالاساءة تارة أخرى، اضحك على نكاتهم السخيفة احياناً وانفعل واتشابك معهم احياناً أخرى، مر على الموضوع عدة سنوات جعلتني اتجاوز الأمر ولكنى لم أنسي ولم اغفر الاساءة يوماً.

قد تواجه الكثير من الهزائم، ولكن عليك أن لا تُهزم – مايا أنجلو

اعتدت دائماً النظر إلى نصف الكوب الممتلئ والتعلم من كافة التجارب، فمثلما كان للتجربة اثر سئ في حياتي الا انها جعلتني اقوى وتعلمت الكثير منها، تعلمت أن الكلمة إذ خرجت لا ترد وإن مجرد دعابة سخيفة أو نكتة “بايخة” يمكن أن تدمر حياة شخص بالكامل، تعلمت أن أي شخص قد يقع فريسة للتنمر وإن الأمر لا يتعلق بشكلك، أنفك، … فحتى أشهر الاشخاص وأكثرهم جمالا تعرضوا للاساءة من قبل، تعلمت أن الانكسار والانهزام اسوأ شئ يمكن ان تفعله لنفسك فهذا يشعر المتنمر بأوج قوته، تعلمت ألا ألوم نفسي واحاول البحث عن الاسباب التي دفعتهم لإيذائي، فالمشكلة ليست في ولا في أنفي ولا غيره إنما المشكلة كانت وستظل  في عقولهم المريضة الكريهة، تعلمت إنه لا توجد أي اسباب تبرر عملية التنمر وأن المتنمر شخص مريض يجب علاجه ومحاولة تقويمه حتى لايؤذي احد بسلوكه.

ليست العظمة في أن لا تسقط أبدا، العظمة أن تنهض كلما سقطت – كونفوشيوس

اتمنى من حكاياتي أن يشعر الجميع انهم ليسوا الوحيدين الذين تعرضوا للتنمر وأن الامر يحدث للجميع دون استثناء، فواحد على الأقل من كل ٣ اشخاص تعرضوا للتنمر مرة واحدة خلال حياتهم، بدءاً من الدعابات السخيفة مرورا بالمضايقات والبذاءات اليومية وحتى العنف الجسدي والاهانات النفسية وغيرها، فرغم محاولة البعض انكار وجود التنمر كظاهرة وإنه لا يتعدى كونه مجرد مضايقات طبيعية تحدث للجميع إلا  أن الامر تطور ليصبح سلوكاً مرضياً ينذر بخطورة شديدة على المدى البعيد، حيث وصل أنه اصبح احيانا مصدراً للدخل للبعض وبوابة لاستعراض العضلات والقوة على الضعفاء، كما إن التطور التكنولوجي الذي نعيشه منح الحميع طرقاً ووسائل مبتكرة للتشهير والإيذاء النفسي والجسدي.

 لذا بدلاً من دفن رؤوسنا في الرمل كالانعام وإدعاء إن الامر على مايرام علينا التفكير في حلول فعلية لانهاء تلك الظاهرة أو على الاقل تقليلها كلاً بدوره، أولاً علينا جميعاً الاعتراف بوجود الظاهرة وتفشيها بشكل كبير في مجتمعنا وبحث الاسباب التي أدت لانتشارها؛ وقتها يمكن أن نجد حلول فعلية لها. وكذلك على الاهل مراجعة انفسهم والانتباه لسلوك اطفالهم وعدم تربيتهم على العنف وتوجيه السخافات للاخرين بل تربيتهم على معاملة الناس كما يحب أن يعاملوا، يجب أيضاً تقليل الفجوة بينهم وبين أولادهم وترك باب الحوار مفتوحاً دائماً لكي يشعروا بالراحة للجوء إليهم في اي وقت. وفي حالة تعرض احدهم للتنمر يجب عدم التهاون واستسهال الأمر لأنه قد يصل إلى الاكتئاب أو الانتحار احياناً، وعلى المنظمات الحقوقية والدينية إطلاق الكثير من حملات التوعية والندوات وتنظيم ورش عمل دورية للتوعية بالتنمر وأشكاله وكيفية التعامل معه.

اخيراً كلمة اهمس بها في أذن كل متنمر، تذكر أن كل ما تفعله سيرد لك ولو بعد حين، فقط ضع نفسك مكان الطرف الاخر قبل أن تتفوه بأي كلمة سيئة أو تقوم بأي فعل عدائي، فكر في شعورك إذا عاقبك أحد على جريمة لم ترتكبها وكيف سيجعلك هذا تعاني، واخيراً تذكر أن البشر جميعهم أسوياء والانسان هو الانسان بغض النظر عن لونه وجنسه وعرقه ودينه، لا يفرق بينا شئ سوى عملنا الصالح في الدنيا ومعاملتنا الحسنة مع بعضنا البعض.

31530792_2118869535025007_2375980014135934976_nسلمي محمود

إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني **

أضف تعليق