مذكرات إنجي أفلاطون من الطفولة الي السجن

الأحد ٢١ أبريل ٢٠١٩                 ــ كتبت: أفنان فهيد

untitled«أدركت لأول مرة، ولم أكن قد تجاوزت الثانية عشر ربيعًا، أن التمرد حالة ضرورية للتصدي فيما بعد للظلم الواقع عليّ. وقررت أن أبدأ. ومن هنا أستطيع أن أقرر دون فخر، وأيضًا دون تواضع، أن التمرد كانت السمة التي لازمت حياتي.»

7974311-606056367

إنجي أفلاطون هي واحدة من أشهر الفنانات التشكيليات في مصر، صاحبة مدرسة منفردة ومختلفة عن نظيراتها. فمعظم أعمال إنجي تجسد معاناة طبقات الشعب المهمشة، من فلاحين، وعمال، وصيادين. وأيضًا كان للمسجونات نصيبًا كبيرًا من أعمالها فقد قضت إنجي فترة من عمرها في سجن النساء في أواخر الخمسينيات ومطلع الستينيات. وكان الاهتمام الأكبر في أعمال إنجي هو وجوه النساء والفتيات، في مختلف أعمارهن وطبقاتهن.

نشأتها

57377505_2246813565413078_2384290887522844672_n

وُلدت إنجي أفلاطون في السادس عشر من شهر أبريل لعام ١٩٢٤، وهي حفيدة حسن الكاشف الشهير باسم «أفلاطون» وهو اللقب الذي لقبه به محمد علي رسميًا، وذلك لشهرته بمناقشاته الفلسفية وتساؤلاته. وأصدر الخديوي إسماعيل فرمانًا في يوم ٢٢ مارس ١٨٧٩ بأن يؤلف ولي العهد محمد توفيق النظارة التوفيقية (أو ما يعرف في زمننا هذا بـالحكومة). وعين حسن الكاشف أفلاطون ناظرًا للجهادية والبحرية، إلا أن هذه النظارة لم تستمر سوى أيام، إذا صدر فرمانًا جديدًا في يوم ١٨ ابريل ١٨٧٩ بأن يؤلف محمد شريف باشا النظارة الجديدة وأسندت نظارة الجهادية والبحرية لشاهين باشا.

وكان والدها، الأستاذ الجامعي حسن محمد أفلاطون، قد درس العلوم في جامعات سويسرا وإنجلترا، وعاد للتدريس بكلية الطب في مصر، ثم انتقل لكلية العلوم قسم حشرات عند نشأتها عام ١٩٣٠، وتولى العمادة بها لسنوات طويلة.

أما أمها، فكانت ابنة عمٍ لأبيها، وهي السيدة صالحة أفلاطون والتي انفصلت عن أبيها في نفس العام الذي ولدت به إنجي، وهي في التاسعة عشر من عمرها، ولم تتزوج مرة أخرى – إلا في وقت لاحق- خوفًا من سحب حضانة ابنتيها منها كما كان يهددها زوجها السابق.

5343d801890ff429707ec6874a76e978استقلت والدة إنجي ماديًا وانتقلت بطفلتيها إلى منزل منفصل عام ١٩٣٦، وأنشئت دار أزياء «صالحة» التي كانت تخدم نساء الطبقة الأرستقراطية. فنشأت إنجي في جو أرستقراطي وبرجوازي لم تألفه ولم تحبه منذ سن صغير، وألحقها أهلها بمدرسة راهبات القلب المقدس والتي كانت تعرف بكونها «مصنع الزوجات الصالحات»، فقد كانت تربى بها التلميذات على الطاعة العمياء، وقتل الطموح بهن. فكان يمنع على سبيل المثال اصطحاب أي كتب غير الكتب المقررة، أو إنشاء أي صداقات بين الفتيات وبعضهن البعض.

وتعرضت إنجي أكثر من مرة للعقاب بسبب رفضها طاعة الأوامر، وكغيرها من مثقفات النصف الأول من القرن العشرين، رفضت الإكمال في مدارس الراهبات. فنقلتها أمها لمدرسة الليسية الفرنسية، والتي وصفتها إنجي بأنها أول خطواتها نحو الحرية. وفي مدرسة الليسية تشبعت بالآراء والأفكار الفلسفية للمفكرين الفرنسيين، وكانت المدرسة تشجع التلميذات على الدخول في نقاشات فلسفية.

وخلال دراستها، احتكت إنجي بطبقات جديدة لم تتعرف عليها في مدرسة القلب المقدس -والتي ضمت فقط بنات الذوات-، فابتعدت عن صديقات الطفولة ولاحظت الفروق بين طبقتها البرجوازية والطبقات المتوسطة والفقيرة، وهذا دفعها للتساؤل: كيف يقبل إنسان عاقل هذا الوضع الظالم؟

إنجي أفلاطون والرسم

11كان الرسم هواية إنجي منذ الطفولة، وكانت عائلتها على دراية بموهبتها، وتسعى لتطويرها من خلال توفير دروس تعليمية لها في هذا المجال. إلا أن تلك الدروس لم توقف أمال وطموحات إنجي فتمردت عليها. إلى أن تعرفت على الفنان التشكيلي كامل التلمساني وكان كامل كغيره من الفنانين في ذلك الوقت لا يستطيع أن يعيش على العائد المادي من لوحاته. فألجأته الظروف إلى إعطاء إنجي دروسًا في الرسم، وقد اعتقد في بادئ الأمر أن إنجي أحد فتيات الطبقة البرجوازية التي تريد تعلم الرسم كما تتعلم البيانو والحياكة، وأنه نوع من أنواع التنازل عن مبادئه. وما لبث كامل التلمساني أن أدرك أنه كان مخطئًا بشأن تلك الفتاة. وفتح الرسم لإنجي بابًا جديدًا على الحياة في مصر التي لا تعرف عنها شيئًا، واختلطت بدائرة المثقفين المصريين آنذاك.

التمرد وبدء النضال الشيوعي

9c1088221cb6e005effd5863cd119780.pngفي ذلك الوقت كانت الحرب العالمية الثانية دائرة بين دول المحور ودول التحالف، وكان الاتحاد السوفييتي مشاركًا في الحرب بجانب الدول الاستعمارية ضد دول المحور، فسمحت تلك الشراكة بوصول الكتب الماركسية التي تناقش الفكر الاشتراكي باللغة الإنجليزية إلى مصر. ووقعت تلك الكتب لأول مرة في يد إنجي. ووجدتها تتفق مع أفكارها المتمردة على طبقتها، بجانب أنها كانت تناقش كل كبيرة وصغيرة في وضع المرأة المستقلة في الأنظمة الرأسمالية.

وكانت تلك هي الخطوة الأولى نحو التحريك الفعلي؛ فرفضت إنجي أن تذهب إلى فرنسا لتتعلم الرسم كما أرادت عائلتها، وأصرت على البقاء في مصر. ولكي تتحرر من سلطة أهلها كان عليها أن تستقل ماديًا، فبدأت بالعمل كمدرسة رسم في مدرستها الليسية للأطفال الصغار.

«الاشتراكية والمبادئ الهدامة».. هكذا وصفتها الحكومة في عهد الملك –ومن بعده مما لا شك فيه-، فعلى حد قول إنجي إنه بالرغم من وجود دستور وحياة نيابية تكفل عددًا من الحريات إلا أن إنشاء حزب شيوعي يعد جريمة يعاقب عليها القانون بأحكام قانونية تبدأ بسنة وتنتهي بعشر سنوات من الأشغال الشاقة.

انضمت إنجي لـ منظمة اسكرا عام ١٩٤٤، وكانت تلك هي أولى المنظمات الشيوعية التي تنضم إليها، ولكن العقبات التي واجهتها لم تكن في التضيقات الحكومية عليهم فقط، بل وأيضًا في اللغة العربية التي لم تكن إنجي تجيدها تقريبًا بحكم نشأتها، وكانت تشق خطواتها نحو الحياة وفي جيبها قاموس صغير أضافت عليه المصطلحات والكلمات التي كانت تسمعها. كما كان الاختلاط بين النساء والرجال في بادئ الأمر أمرًا غير مستحب بسبب المجتمع، مما حدا بالتنظيم لإنشاء قسم نسائي.

«في الحقيقة أنني أنا نفسي لم أستطع التخلص من هذه العقدة، عقدة أشبه بعقدة الذنب لفتاة غنية واشتراكية معا».

شكلت تلك العقدة عقبة في حياة إنجي أفلاطون لم تتخلص منها حتى ساعدها زوجها على ألا تخجل من مستوى عائلتها، وأنه لا يجب عليها أن ترتدي الملابس القديمة لأن حرصها على مظهرها هو أمر طبيعي جدا.

المرأة ليست إنساناً من طبقة ثانية

3687352891555407396.jpg

كانت أولى القضايا التي اهتمت بها إنجي هي قضية العدالة والمساواة بين كل طبقات المجتمع، ولكن جاء الدور على قضية جديدة لتشغل حيزًا كبيرًا من تفكير إنجي وهي قضية المرأة المصرية، والتي كانت – ولازالت – تعامل على أنها إنسان من الطبقة الثانية، كحال العديد من النساء في عالمنا العربي، فتعاني من التفريق بينها وبين الرجل في المعاملة والتعليم وأجور العمل، هذه بجانب حقها في الانتخاب والذي كان ممنوعًا حتى قيام ثورة الضباط الأحرار في ٢٣  يوليو ١٩٥٢، ولكنه لم يكن إجباريًا أيضًا كما كان على الرجل بل كان اختياريًا. وبجانب ذلك فلم يكن للمرأة دوراً سياسياً فعالاً، ولم تكن تشارك في «تحرير الوطن” أو في أي قرارات مصيرية.

في ذلك الوقت كان هناك حزبان نسائيان؛ أولهما حزب هدى شعراوي والذي فقد هدفه بعد موت مؤسسته، والحزب الثاني هو الحزب الذي أسسته السيدة فاطمة نعمت راشدعام١٩٤٢. تذكر إنجي في مذكراتها أنها وزميلاتها من الفتيات الماركسيات حاولن العمل من خلال الحزب النسائي الوحيد الموجود وقتها ولكنه رفض التزحزح عن آراءه القديمة أو ضم عناصر شابة جديدة، وكذلك حاولن العمل مع اتحاد بنت النيل الذي أنشأته درية شفيق لكن بلا فائدة أيضًا، لذلك وجدوا أنه لا مفر من تكوين جمعية نسائية مستقلة ذات طابع ديمقراطي جديد، وضمت الجمعية العديد من الفتيات منهم لطيفة الزيات، وفاطمة زكي وآسيا النمر وعنايات النيرلي وسموها رابطة فتيات الجامعة والمعاهد المصرية. وأعلن عنها في منتصف عام ١٩٤٥. واستمرت الجمعية في نشاطاتها المحلية والعالمية ضد الرجعية والاستعمار.

المظاهرة النسائية

1951

تتابع كفاح إنجي أفلاطون وزميلاتها في السنوات التالية فكان من أهم الأحداث التي اشتركت بها المظاهرة النسائية في يوم الشهداء ١٤ نوفمبر ١٩٥١، وضم الموكب آلاف السيدات والفتيات من جميع الطبقات، وكانت تتقدم المظاهرة السيدة سيزا نبراوي حاملة صورة لـهدى شعراوي، وبجانبها سيدة أخرى تحمل لوحة زيتية للشهيدة أم صابر أول شهيدة مصرية سقطت في منطقة القناة، إذ كان الكفاح المسلح مشتعل بين الفدائيين والاحتلال في منطقة القناة بعد إعلان النحاس إلغاء معاهدة ١٩٣٦ بين مصر وبريطانيا.

وقد تم تحضير اللوحات واللافتات والملصقات من قبل الفنانين والفنانات من كلية الفنون الجميلة.

إنجي والسجن

350

كانت المواجهة الأولى بين إنجي والنظام الجديد عندما تم اعتقال زوجها حمدي بسبب انتماءه لمنظمة الحزب الشيوعي، قام نظام عبدالناصرعام ١٩٥٩ بشن حملة اعتقالات واسعة شملت اسم إنجي أفلاطون، وقد تمكنت إنجي من التواري عن الأنظار والهرب لمدة قصيرة جداً إلى أن تم إلقاء القبض عليها وحبسها في سجن النساء بالقناطر الخيرية مع العديد من زميلاتها، كما اعتقل العديد من زملائهن الرجال الذين حبسوا في سجن أبو زعبل، وتعرضوا لكل أنواع التعذيب، وهو لحسن الحظ ما لم يكن يحدث للمعتقلات النساء وقتها.

6

تحكي إنجي بأنهن كن في عنبر منفرد بعيدًا عن المسجونات بقضايا جنائية، وكانت تمارس عليهن الكثير من التضييقات والتعذيب المعنوي، من منع زيارات أو وصول الطعام والأموال لهن، بالإضافة إلى غلق العنابر عليهم فلا تفتح سوى لساعة واحدة صباحًا للذهاب للحمام، وساعة مساءً، إلا أنهن تمكنوا من التغلب على ذلك بالحيلة وبمساعدة الأطباء بالسجن، فكانوا يحولوهن على مستشفى قصر العيني، حيث يمكنهم هناك مقابلة ذويهم، كما كانوا يقومون بتهريب الرسائل عبر المسجونات بقضايا جنائية، كما تمكنت إنجي من الحصول على حق بممارسة الرسم مما مكنها من تجسيد ملامح السجن من الداخل، من وجوه للمسجونات، أو للأشجار خارج سور السجن، بجانب رسم أوجه الحياة فيه. وكانت إنجي ترسم السجن في على أنه مكان مكدس بالنساء المحبوسات في مكان ضيق، يستطيع المشاهد أن يشعر بالضجة الخارجة منهن دون أن يسمعها.

112

سجنت إنجي  لمدة أربع سنوات ونصف و أفرج عنها  في يوليو عام ١٩٦٣. بعد خروجها من السجن، أصبح الرسم هو نشاطها الرئيسي حتى وفاتها سنة ١٩٨٩.

**إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني

أضف تعليق