عزيزتي المرأة .. لا تكوني مثالية

الإثنين ١٩ أغسطس ٢٠١٩                كتبت. — سلمي محمود

4
Art by Ana Leovy

ما أول شىء يخطر في بالك عندما تسمع كلمة “مثالي”؟ قد تقفزفي ذهنك صورة الأسرة السعيدة الناجحة التى نراها دوماً على شاشات التليفزيون، هؤلاء من يرتدون أفخم الماركات، ولا تفارقهم الابتسامة، ويدرس أولادهم في أحدى الجامعات التي يدفع الناس الكثير من الأموال للحصول على شهادة تتزين باسمها، أو قد يتبادر أمامك صورة تلك الفتاة فائقة الجمال التي نراها دوماً كواجهة للإعلانات ونتمنى لو امتلكنا ربع مقوماتها. قد يقول البعض إنه لا شىء مثالي يوازي قصة حُب راقية، ملتهبة يهيم كُل طرف بالأخر لحد أن تستحيل الحياة بدونه؛ تلك القصص التي تكون على غرار سندريلا والأمير حيث لا تقف المصاعب عائقًا بين قصة حبهم تلك. وقد يلخص البعض الأخر المثالية في النجاح، فلا شىء يفوق زهوة الفخر والانتصار بعد عناء طويل!

أراء عديدة، مُختلفة لكن رغم ذلك لم تكن مُرضية بالنسبة لي حيث كان لدي مفهوم آخر مختلف عن المثالية أبعد بكثير من الأسرة السعيدة أو الفتاة الجميلة! فعندما تُذكر كلمة المثالية أمامي يقفز في ذهني لوحة جميلة رُسمت بأنامل فنان مُحترف، أبدع في رسم كُل جُزء منها بحرفية تامة واختار ألوانها بعناية فائقة للحد الذي جعلها مُتكاملة، لا يشوبها شائبة. لوحة تسرق عيناك في المرة الأولى التي تلمحها بها وتجعلك عالق في دوامة من المشاعر المُتضاربة بين الغبطة والذهول وحتى الحسد على كونك لست من أبدع تلك التُحفة الفنية!

2
Art by Ana Leovy

كنت أرى المثالية لا وجود لها في الواقع، على الأقل بالصورة التي يراها البعض، فهناك دوماً جانب لا يعرفه الأخرون ولو علموا به لأعادوا النظر في نظرتهم للمثالية من الأساس!، لذا أنحسرت نظرتي لها في تلك اللوحة، ففي الخيال فقط يُمكنك أن ترسم تفاصيل صورتك المثالية بحُرية تامة دون أن تعبث بها أيادي خارجية تشوهها وتفقدها رونقها، أما الواقع فيحكمه قوانين وعوامل مُختلفة تجعله أبعد ما يكون عن صورة المثالية المُتعارف عليها.

ولكن رغم ذلك مازال البعض يؤمن بوجود المثالية بل وعلى استعداد لبذل الغالي والنفيس ليقتربوا ولو قليلاً منها، تغمرهم سعادة غامرة إذا اقترنت تلك الصفة بهم وإن كانت الحقيقة أبعد ما يكون عن ذلك! يدبرون المكائد والحيل لأقرب الناس إليهم من أجل شعور الزهوة والانتصار الذي يمنحه ذلك اللقب حتى ولو كان لحظي، زائف ومصطنع! صراعات تبدأ منذ الصغر حيث الشجار “الطفولي” على لقب الطالب المثالي مروراً بالمكائد بين الموظفين وبعضهم لنيل شرف لقب الموظف المثالي، ولا ينتهى مع خناقات الأمهات على لقب الأم المثالية! وما زاد الطين تحَول المثالية إلى سلعة تُباع وتشترى.

3
Art by Ana Leovy

“كيف تُصبح مثالي”، أصبح موضوع آلاف المقالات والكُتب والندوات، والتي تضم كمًا لا بأس به من المغالطات التي لعبت دورًا في تشويه صورة المثالية وتحويلها من هدفًا سامياً يسعى إليه الكثيرين وينعكس عليهم إيجابًا ويعطيهم دفعة ليكونوا أشخاصًا أفضل، إلى سببا لإغراقهم في دوامة من التابوهات والمفاهيم الخاطئة حتى حادت عن معناها الصحيح وفقدت معناها، وأصبحت تشكل ثُقلاً يجثم على كل من يحاول الاقتراب منها، وانعكست سلبًا عليهم وعلى حياتهم!

الأم المثالية:

لكي يتم منحك وسام الأم المثالية عليكي التحول من فتاة طموحة، ناجحة، لديها حياة، وظيفة وأصدقاء إلى عَداء ثقيل الحركة يجري في سباق طويل لا نهاية له دون أي فرصة للتريُث والتقاط الأنفاس، يصطدم في كل مرحلة بحواجز ضخمة تعيقه عن الوصول لنقطة النهاية، فمنذ اللحظة الأولى التي تتلقى فيها الأم خبر حملها لا تلبث أن تتغير حياتها 180 درجة، عليها أن تُلقى وراء ظهرها كل ما يتعلق بحياتها السابقة وتودعها للأبد وتنتقل إلى أُخرى رتيبة حيث لا وقت لنفسها، حياتها، عملها،.. إنما كل شيء أصبح يدور حول طفلها، تترك وظيفتها لان شغلها الشاغل والأهم أصبح الأهتمام بطفلها دون غيره لا يجب أن يعطلها عنه شىء ولو كان طموحها وأحلامها!، ليس هناك وقت للترفية مع الأصدقاء وارتياد صالونات التجميل إنما يجب أن تقتصر مشاوريها على عيادات الأطفال وأخصائي التربية الحديثة، عاصفة من النصائح والإرشادات تنهال عليها من الأقارب والأصدقاء والتي لا تستند إلا للتجربة الشخصية التي قد قلما تصيب وكثيراً ما تخطيء!، هذه تنتقد كيفية تعامُلك مع طفلك وتلك تشجب الطريقة التي تطعمينه بها ووو..، تجد كل أم نفسها عالقة في تلك الحياة دون أي فرصة للرجوع أو حتى التنفيس عن غضبها!، تحاول جاهدة مجاراتهم والاستجابة لكل ما يقولون أملاً في الحصول على صك المثالية المزعوم ولكن دائمًا يسيطر عليها سحابة من مشاعر اليأس والأحباط والشعور بالذنب، تشعر معها إنها لم تؤدي دورها بالشكل المطلوب وإن كل ما تقوم به ناقص “وغير مثالي”!

10
Art by Ana Leovy
الزوجة المثالية:

أما الزوجة المثالية، فأهلاً بمئات الزوجات اللاتي يعشن حياة مزدوجة. يتخفين سراً ليتمكنن من مشاركة تفاصيل حياتهن دون أن يتعرف عليهن أحد. يشجبن حياتهن الرتيبة التي تخلو من أي مشاعر أو لحظات حلوة، يعضن أصابع الندم على حياتهن القديمة التي يتمنوا لو عادت ليسلكوا طريقًا أخر غير الذي هن عليه الآن، يبكين على حياة علقن بها لا تشبههن ولا يعلمن سبيلاً للخلاص منها، ويبحثن طوال الوقت عن طُرق فعالة لكشف الأعيب أزواجهن وفضح خيانتهن، وعن حلول لمشاكلهن مع أزواجهن وكيفية أرضائهم حتى لو لم يكونوا الطرف المُخطىء! يبحثن عن وسائل ليبدون أجمل ليفلتن نظر أزواجهن لربما يعيدهم ذلك إليهن، يبحثن بين إجابتهن على طوق نجاه لحياتهن البائسة تلك أو يداً تُربت عليهن وتصبرهن على حياتهن، أو ربمًا يبحثن عن حالات مشابهة يشتركن معهن في نفس المعاناه، فالمُصيبة عندما تجد من يشاركك بها تكون أقل وطاءة!،

هؤلاء الزوجات المتخفيات علي وسائل التواصل الاجتماعي يظهرن علنا بصورة الزوجة المثالية التي يحسدها الجميع على حياتها ويضربن المثل بقدرتها على التحمل والحفاظ على بيت يظن البعض إنه “مثالي”، يتشدقن بتركها كل شيء في سبيل أن تحظى بحياة زوجية مستقرة هادئة!، ولكنها في الحقيقة تعيش حياة مضطربة، مُتقلبة أشبه بفيلم رُعب تتبلور مشاهده الرئيسية في لحظات الخوف والمعاناه وتمتلىء لحظاته بواقع اليم من الملل، القهر والإيذاء النفسي والجسدي!  هم لا يرون المثالية هنا في قصة الحب الحالمة، ولا البيت المستقر الهادىء ولا الأسرة السعيدة الناجحة، إنما في قُدرة الزوجة على التأقلم والبقاء في حياة لا تشبهها، تفقد خلالها كل يوم جزءاً منها دون سبيل لإرجاعه، وتتحمل كافة أنواع المعاناه دون تأفف أو تذمر!، وكلما زادت درجة تحملها لذلك الوضع دون أن تَمرض بمرض نفسي أو عقلي أو تفقد حياتها بصورة مأسوية كلما حَصلت على درجة إضافية في مقياس المثالية وارتفع تقديرها!

12
Art by Ana Leovy
الأنثي المثالية:

هنيئاً لك بصك الأنثى المثالية إن كنتِ نُسخة من عارضات الآزياء اللاتى لا يشبهن حتى أنفسهن!، هؤلاء اللاتي يمتلكن شعراً كثيفاً ناعماً كالحرير، بشرة بيضاء صافية، عينان بلون السماء، جسد ممشوق، أنف مدبب صغير الحجم، لا يؤثر في جمالهن أي تغيرات مثل الحمل، الرضاعة، أو ضغوطات العمل والحياة، بل قد يزدادن جمالاً على جمالهن! هن لا يعلمن شيئاً عن تساقط الشعر، ولا حبوب الوجه ولا السليوليت ولا تنغص حياتهن أي تشوهات وعيوب خُلقية ظاهرة، ينفقن أموالاً طائلة على مستحضرات التجميل والكريمات الطبية، يقضين أوقاتهن في المراكز الطبية وعيادات التجميل، طوال الوقت يبحثن عن المثالية، تسعى تلك لتمتلك أنفاً كأنف المُغنية الشهيرة، وتلك عينان كعين الفنانة الشابة، وأخرى جسد رشيق ممشوق مثل الراقصة الاستعراضية التي تُحبها! تشابهن جميعا حتى أصبحت لا تكاد أن تميز بينهن وبين من يتشبهن بهن، وكأنهن نسخ مستنسخة، يسعىن طوال الوقت ليكونن مثل تلك الصورة “المثالية”، حتى ولو على حساب صحتهن، وجمالهن الطبيعى وأموالهن!

عواقب المثالية:

ربما الأم والزوجة أو المرأة بشكل عام هن الأكثر تضرراً من المثالية تلك، ولكن هن لسن وحدهن من طالتهن عدوها، فهوس المثالية أصبح يُسيطر على العالم بأكمله وأصابت سهامه كافة مناحى الحياة وأنماط البشر، قصص الحب التي تتغذى على اختلاق مشاعر مُزيفة وقصص وهمية لجذب الأعين، علاقات أُسرية تظهر أمام الجميع مترابطة وسوية ولكنها في الحققة مُتخبطة، مُفككة وغير آدمية، بل وصل الأمر إلى اختلاق سمات شخصية وطباع وأسلوب حياة مُختلف تماماً عن حقيقة الفرد نفسه تماشياً مع مبادىء المثالية السائدة!، طفولة مُشوهة وبيوت قائمة على المقارنة وتتبع الآخرين بحثاً عن المثالية المزعومة، يمكنني أن أرصُد الالاف الحالات التي تأثرت سلباً بفعل المثالية ولكنى وقتها سأحتاج إلى مقالين أو ثلاثة أخرى ليكفي سردها!

8
Art by Ana Leovy
المثالية الزائفة:

ربما يكسب المرء من جراء إدعاءاته تلك بأن يحظى بلقب “مثالي” بالرغم من كونه أبعد ما يكون عن الصورة المُدعية، ولكن في المقابل يخسر أكتر بكثير مما يجني في رحلته تلك، يخسر حياته التي تُشبهه ويرتاح لها، اشخاصاً يأنس بوجودهم، وضعاً يألفه ويرتاح له وقد يخسر ما هو أكثر بكثير وهي “نفسه” وكل ذلك مقابل لقب زائف لا قيمة له قد يُرضى غروره ويمنحه لذة انتصار لحظية، ولكنه يقفد مقابله ما لا يمكن تعويضه!

كلمة أخيرة:

لذا اتمنى لو أهمس في اذن كُل شخص في تلك الحياة بكلمات قد تبدو قاسية في مُجملها ولكنها تعني الكثير، فالمثالية يا عزيزتي لا تعني أن تفقدي ذاتك، حياتك ونفسك في سبيل سراب لا وجود له سوى في مُخيلتهم، ولا أن تبقي عالقة في حياة لا تُشبهك ولا تجدين بها راحَتك فقط لأجل الحصول على صك المثالية المزعوم هذا، وهي أيضا لا تعني أبداً التخلي عن كُل مُتع الحياة في سبيل لقب زائف لن يضيف إلى رصيدك الواقعي شيئاً..

وإن كانت تعني هذا فلتذهب للجحيم، أتذكرين تلك اللوحة فائقة الجمال ماذا سيحدث إذا سكبنا كوبًا من الماء عليها؟ ستتشوه اللوحة وتفقد “مثاليتها”، ولكن هل فكرت إنه ربمًا قطرة الماء تلك أضافت عليها سحرًا جماليًا خاصًا ومنحتها رونقًا “مُختلفًا” بعيدًا عن مفهوم المثالية المتعارف عليه؟

6
Art by Ana Leovy

هذا هو الفارق بين الواقع والمثالية حيث كل صور المثالية متشابهة، سعيدة، فائقة الجمال لا تشوبها شائبة تُعكر صفوها. إنما الواقع مُغاير، العامل الرئيسي به هي “قطرة الماء” التي تمنح كلاً منا شيئًا مُختلفاً يُميزة عن غيره وتجعله “هو”!.. لذا عزيزتي لا تكوني مثالية كوني أنت بحياتك الواقعية المُختلفة بكل متناقضاتها وعيوبها حتى وإن كانت أبعد ما يكون عن تعريفهم للمثالية تلك، فالمثالية هو ما تجدي نفسك به، ما يُشبهك، وليس ما يظنه الأخرين ويختاروه لكَ! فالحياة أقصر من أن تُضيعيها في حياة لا تُشبهك، ووضع لا ترتاحين به تفقدين فيها نفسك قبل أن تفقدي من حولك!

ana-leovy-flower-field
Art by Ana Leovy

31530792_2118869535025007_2375980014135934976_nسلمي محمود

إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني **

أضف تعليق