الهوس بالمثالية والمعايير المجتمعية الزائفة للوصول اليها

الخميس ١٢ مارس ٢٠٢٠       ــ كتبت: سلمي محمود

Woman-reflected-in-hand-mirror-000018320020_Small-601x601

“بشرة صافية، نضرة، بيضاء اللون أشبه بحَبات الثلج التي تُغطي الطرقات في ليالي ديسمبر الباردة، شعر طويل كثيف مُنسدل ينافس في نعومته الحرير ويتلألأ بلون الذهب، جسد نحيف ممشوق القوام نُحتت تفاصيله بمثالية للحد الذي أصبح وكأنه لوحة فنية مرسومة بِدقة؛ ربة منزل تُسخر حياتها لخدمة زوجها وأولادها،…” عناوين عريضة سَطرت الفصول الأولى من الكتاب الافتراضي ، دعونا نسميه، “كيف تُصبح مثاليًا”، الكتاب الذي ذاع صيته في غضون وقت قصير بل وقفز على قائمة الأشهر والأكثر مبيعًا مُتخطيًا في طريقه كُتبًا أخرى تحمل نفس التيمة “كيف تُصبح ناجحًا، كيف تُصبح محبوبًا، …” فبالطبع المثالية سلعة براقة تخطف الأنظار أكثر من النجاح والحب وغيره! مما جعل الجميع يجن جنونه ويتهافت على امتلاك نُسخته الخاصة لربما يضعهم ذلك على أول طريق المثالية المزعومة!

يبدأ الكتاب بسرد مفهوم المثالية والتي تتجلى في عدد من المعايير القاسية، العالية التي وضعها شخصًا ما من وراء الكواليس، و عليك أن تسير وفقها وتُطبقها بحذافيرها حتى إن اختلفت الأذواق والمقاييس، فصولاً عِدة مُتتالية ترسم خطوط كل شيء تقريبًا حيث لا مجال للتجويد أو منحك فرصة لأن تميل قدماك لاتجاه أخر مُعاكس، هناك فصلاً للجمال، وأخر لمفهوم السعادة، الحُب، وغيرها … عليك فقط أن تُقلب الصفحات جيدًا لتصل إلى مُبتغاك! ليس هذا وحسب إنما كل شيء مُدعم بآليات التنفيذ من الوسائل التي تُسهل عليك طريق التحول نحو عالم المثالية الخالي من أي نواقص أو شوائب.

Peterson effortless perfection_0-2لا بأس أيضًا من بعض البهار الذي يُضفي على الطبخة لمسة سحرية ويلعب دورًا محوريًا في تحويل مذاقها السيء إلى أخر شهي وطيب النكهة!، الشرارة التي توقد المشاعر وتُشعل لهيب المنافسة! ما الذي ستجنيه بكونك مثالي؟ المثالية هي العصا السحرية القادرة على صنع المستحيل؛ المفتاح نحو النجاح والتميز؛ الخيط المتين الذي يجذب إليكِ فارس الأحلام راكعًا على ركبتيه ليحملك معه على حصانه الأبيض الأنيق؛ مصباح علاء الدين الذي تخضع أمامه كافة مشاكل وعقبات حياتك لتختفي وكأنها لم تحدث قِط؛ السبيل الوحيد للشعور بالسعادة والراحة والثقة بالنفس!

وأخيرًا هي الهجوم الضاري على من يخالف تلك القواعد أو يحاول السير عكس التيار. البيضاء هي أساس الجمال أما السمراء فيمكن تصنيفها كفرز ثاني. ذات الشعر المُجعد القصير تُشبه الرجال، فالأنوثة لا تتجسد سوى بتلك التي وهبها الله شعرًا ناعمًا طويلاً. المرأة العاملة لن تشعر بكينونتها الأنثوية والأسرية كتلك التي وهبت حياته لأسرتها وأولادها! أما ممتلئة الوزن فعليها أن تبذل مجهودًا شاقًا وإلا فلن تحظى يومًا بشعور “المثالية”. هذه الاشتراطات مُحددة بدقة بالغة عليك ألا تتخطى أيًا منها وإلا سيكون جزاؤك الطرد من نعيم المثالية وتجرع مرارة خسارة مزاياها!

ربما في البداية كان الغرض من ذلك المسار الصارم شريفًا، ربما أراد البعض أن يحصل على حقوقه المشروعة في الشعور بالتميز حتى وإن بُني ذلك على جُثث ثقة الأخرين بأنفسهم وراحتهم الشخصية، ربما شعروا وكأنه السبيل الوحيد للسعادة والنجاح في تلك الحياة، ربما وربما .. لكن في النهاية أصبح الأمر كالدبة التي قتلت صاحبها. عانت النساء من حصرهن في تابوهات لا تناسبهن، تجرعن مرارة تصنيفهن بناء على معايير وقواعد صارمة، وحُبسن ضمن توابيت من المقاييس القاسية التي يجب أن يسرن وفقها وإلا فسيجدن العصا تنتظر لتلقنهن الدرس في حال أخفقن في رَكب قطار المثالية! فبعد أن صُورت لهن المثالية كالبطل المُنقذ الذي سيمد يد العون لهن لينتشلهن من كل عقبات الحياة أصبحت كالحجر الذي يجثم على قلوبهن ويكاد يخنقهن، فيروس انتشر سريعًا دون علاج أو وقاية الجميع أصبح مهووس به مهما كلفه الأمر، فلا أحد يريد أن يُركل من تلك الجنة حتى وإن كانت نار الواقع أقل ضررًا منها!

الجميع دفع الثمن نفسه، مَن انطبقت عليهن مقاييس المثالية الصارمة ومَن كُن بعيدين كل البُعد عنها، ضيعن أموالهن على عمليات التجميل والشد والتنحيف والتصغير أملاً في مطابقة الصورة الجمالية المثالية!، خسرن صحتهن نتيجة القيام بحمية غذائية لا تناسبهن أو تجربة منتجات ليست آمنة سعيًا وراء تكرار نسخة من فنانة ما، والأهم من ذلك خسرن الثقة بالنفس، الرضا عن مظهرهن، حياتهن التي اضطررن إلى تغيير مسارها الطبيعي إلى مسار أخر لا يناسبهن فقط لمجاراة الوضع وتحقيق تقييم مُرتفع!، وأخيرًا انجرفن في هوس الجمال الأوحد وتحقيق الكمال البشري وعانين من اضطرابات نفسية ربما لن يتخلصن منها ولو بعد حين!

unnamed-3حاول البعض مجابهة ذلك الاضطراب الهوسى الذي أصاب الجميع، الهوس الذي صنعه الكتاب وغذاه الإعلام والمجتمع ووسائل التواصل الاجتماعي وحتى الصالونات النسائية وأحيانًا الأزواج والأقارب والأصدقاء، نددن بمقاييس المثالية المزعومة في كل صوب وحدب، حاولن إثبات إن الجمال نسبي وكلاً منا جميل بطريقته، تفنن في إثبات براهين إن المثالية شيء حلو، مُختلف وليست سلعة مشوهة، مُزيفة مُقيدة بالعديد من المقاييس والاشتراطات التي خنقتها وحرفت معناها الذي كان يُفترض أن يكون ساميًا، حاولن رفع الروح المعنوية لمن أصابتهن سهامها وتسببت في معانتهن من مشاعر خيبة الأمل والإحباط وأحيانًا الشفقة على حالهن، بذلن الغالي والنفيس ليقفن بجوار كل من ظلمتهن مقاييسها وضيعت حقوقهن … لكن لم يفلح الأمر وباءت محاولتهن بالفشل!

لم يحدث ذلك بسب قوة فيروس المثالية أو كونها شيئًا خارقًا لا يُمكن مقاومته، ولكن للطريقة الخاطئة التي حاولن معالجة الأمر بها، فربمًا كان الأمر صوريًا يبدو صحيحًا الاختلاف، الجمال النسبي، التحرر من القيود،.. ولكنه واقعيًا لم يكن كذلك أبدًا، فربما وقفن بالمرصاد لمقاييسها ومعاييرها الحالية ولكن ابتدعن غيرها بصورة مختلفة، حاربن لإثبات حقوق من ظلمتهن سهامها ولكن في المقابل ضيعن حقوق الأخريات بقصد أو بدون، في النهاية انجرفن إلى نفس تيار أغلال المثالية الخانقة وأصبح الأمر مجرد شعارات صورية زائفة لم تُضف جديدًا بل أدت إلى نفس النتيجة ولو بصورة معاكسة! أصبحت السمراء تتربع على عرش الجمال بينما البيضاء عليها أن تتنحى جانبًا فجملها بارد يُنقص من قيمتها على مؤشر المثالية، ممتلئة الوزن تتجسد بها كافة معالم الأنوثة أما الاخريات ذوات الوزن المنخفض فالمركز الأخير في انتظارهن، النجاح يتجسد في العمل وتحقيق الذات أما من ضيعن عمرهن بجوار أزواجهن وأولادهن فلن يشعرن يومًا بمشاعر النجاح والسعادة ولو بعد حين! يُمكن تلخيص الأمر إن كتابًا أخر تم الزج به إلى سوق المثالية زاحم الأخر في أرض المعركة بل وتفوق عليه!، كتاب ضم معايير جديدة وشروطًا أخرى أكثر اجحافًا، تابوهات جديدة أحالت حياة الجميع إلى جحيم لا ينتهي!

ما النتيجة؟ معركة خرج منها الكُل يحمل لقب “خاسرًا” البيضاء والسمراء، ربة المنزل والعاملة، القصيرة والطويلة، أصبح كل ما يحركنا هو السيطرة على كل ما حولنا ومنحه صك المثالية مهما كلفنا الأمر، نهرب من هوس لننغمس في آخر دون راحة، المتطلبات تكبر مع الوقت ولا نرضى سوى بالكمال والصورة المثالية في كل شيء، اختفى شعور الرضا والراحة ولم يعد هُناك سوى القلق والتوتر والخوف! نسينا أن المثالية تكمن فيما يشبهنا ويجعلنا نشعر بالراحة وليس ما يحدده الآخرون من معايير وقواعد بعيدة كل البُعد عنا نفقد معها أكثر بكثير مما نكسب!

تري هل سيجد جديد أم سنبقى في تلك الحلقة المُفرغة من المثالية الزائفة إلى ما لا نهاية؟ هذا هو ما اتمنى أن أجد اجابته يومًا..

31530792_2118869535025007_2375980014135934976_nسلمي محمود

إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني **

أضف تعليق