ماذا تخبرنا القطع الأثرية القبطية عن المرأة في مصر القديمة | الجزء الثالث: الراقصات

الأحد ٥ أبريل ٢٠٢٠            ــ كتبت:  د. إنجي إسحق

الراقصات … هؤلاء النسوة المثيرات للجدل في كل الازمنة… في كثير من المجتمعات كن محبوبات سرا منبوذات جهرا، أعداء حماة الفضيلة وفرائس مجتمعات العار.. على إيقاع خطواتهن الرشيقة تمايلت قلوب حبا وتوارت وجوه خجلا واشتعلت ألسنة غضبا.. ترى كيف عشن في ظل أعراف العصر الروماني المتأخر؟ كيف نظر إليهن المجتمع من خلال عدسة الشرف والعار؟

91982017_590016975056877_4006086378331832320_nروى أحد مؤرخي القرن السادس قصة زوجين قديسين اضطرا ان يتخفيا في زي راقصتين ليخفيا هويتهما، وفي ذات يوم اذ رأت احدى سيدات البلدة حسن المرأة في زي الراقصات حاولت اجبارها أن تعمل لديها بالقوة.. العجيب ان فعلها هذا كان بتأييد من الوالي. جاءت هذه الرواية على هامش واحده من ثمانية وخمسين قصة رواها المؤرخ يوحنا الافسسي في عمله المعروف بـ “قصص القديسين الشرقيين”. اعتبرت هذه الرواية كأحد الشواهد على ان الراقصات كن فئة مستضعفه معرضة للأذى على مسمع ومرأى من الحكام والمجتمع في سائر أقاليم الإمبراطورية الرومانية.

83042054_2779970902097339_5316386204902490112_nربما كانت هذه الظاهرة نتيجة لعدد من التشريعات الرومانية التي أشارت مرارا إلى الراقصات بطريقة مهينة كطبقة متدنية لا يكفل لها القانون حق الحماية.. تشريعات حرمت على الراقصات ارتداء ملابس الراهبات والسيدات النبيلات ربما لإبطال كل محاولة من الراقصات لإخفاء هويتهن.. قد ترجع هذه الظاهرة أيضا إلى موقف بعض المعاصرين من رجال الدولة وقادة المجتمع (مثل بروكوبيوس القيسراني اشهر مؤرخي القرن السادس) و قادة المجتمع ممن رسموا صوره للراقصات بانهن مصدر الشرور و “بنات الشيطان”.

لم تختلف هذه الصورة عن انطباع العامة الذين احتقروا الراقصات بالمثل حتى انه إذا امرأة حلمت يوما بانها ترقص كان ذلك نذير شؤم ينبئ بأزمة. كيف نظر المجتمع المصري تحديدًا للراقصات في ذلك العصر؟ في مصر اشارت بعض المصادر للراقصات بصوره غير مباشرة، وحتى لا نسقط في فخ التعميم وجب التنويه ان اغلب هذه المصادر جاء ليعبر عن حال المدن الحضرية مثل الإسكندرية والبهنسا وبعض القرى الكبرى. إلى أي مدى تعبر هذه الدلائل عن الراقصات في ربوع مصر جميعا يبقى أمرًا غير معروف.

91777226_209493103824689_614619969065320448_n
صورة ٢

في احدى برديات قرية فيلادلفيا المصرية (قرية كوم الخرابة الكبير بالفيوم حاليا) وجد عقد عمل (محفوظ الآن بجامعة كورنل) لسيدة من أثرياء القرية تستأجر ثلاث راقصات لإحياء حفل بمنزلها لمدة ستة أيام، جاء العقد ليوثق شروط كلًا الطرفين تضمن تفاصيل الأجر والإقامة والغذاء وتسهيل الانتقال إلى القرية، الملفت للانتباه ان العقد يتضمن شرط غير مألوف في عقود العمل الأخرى في ذلك العصر، حيث تعهدت السيدة المضيفة بحماية الراقصات وممتلكاتهن. هذا التعهد قد يلمح إلى احتمالية تعرضهن للاعتداء والسلب ولكن لا يؤكد. على أية حال، ما اكدته المصادر هو ان الموقف “المعلن” لقادة المجتمع وعامة الشعب يتلخص في رفض الراقصات واقصائهن. لماذا؟

أولا: تخطى مظهر الراقصات تقاليد حشمة النساء، فثيابهن كانت مكشوفة (ربما صنعت من الحرير الشفاف كما ترجح احد القوانين الرومانية) مثلما يظهر في تصوير لراقصة على قطعة من النسيج القبطي المعروضة بمتحف ابج شتفتونج ببرن بسويسرا (صورة ٢).

ثانيا: قدمت الراقصات عروض استعراضية ذات محتوى وثني (محاكاة لقصص من الأساطير اليونانية) والذي اعتبره البعض خطرا على المؤمنين الجدد في القرون الأولى.

ثالثا: سخرت بعض العروض من رجال الكنيسة وطقوسها

رابعًا: تنافى أداء الراقصات مع الآداب العامة والأعراف السائده، حيث استخدمت بعض العروض (عرفت باسم مايم) لغة بذيئة، كما ظهر في بردية من مدينة اوكسرنخوس (البهنسا).

باختصار.. في مجتمع أوصت فيه المرأة بالحشمة و التزام المنزل و عدم الظهور في الأماكن العامة و الخضوع للرجال و المؤسسة الدينية، ظهرت الراقصات بمظهر و سلوك جريء ثائر على الأعراف. هنا تجلت عبقرية الفنان القبطي في تجسيد رؤية المجتمع للراقصات بلغة الرموز. في جدارية بدير الأنبا ابوللو بباويط (صورة ٣) صور القديس سيسينيوس كفارس يمتطي جواد يحمل في يديه حربه مغروسه في جسد سيده في زي الراقصات ، و فوق رأسها نقش لاسم الالهة الاباسداريا وهي من كانت تخشاها النساء لاعتقادهن انها تقتل الأجنة في رحم امهاتهم، تسبب الإجهاض و تقتل الأطفال حديثي الولادة، أي استبدل الفنان القبطي الشكل المألوف للشيطان تحت اقدام الجواد بصورة هذه الآلهة في هيئة راقصة في كامل زينتها، تصوير حمل في طياته رسالة توعية و تحذير للناظر اليها ، هذه المعالجة التي شبهت الراقصات بالشياطين ظهرت في العديد من النصوص المعاصرة مثل أقوال آباء الصحراء.

91613321_2608342096115993_3230932428801441792_n
صورة ٣

في ظل هذا المناخ من اللوم قد تظن ان ساحات الرقص باتت خاوية ولم يعد للراقصات مكان في مجتمعات الشرف والعار، لكن المثير للاندهاش ان الواقع كان مختلف تمامًا عن هذه الصورة المثالية، حيث اجمعت المصادر باختلاف أهدافها على الشعبية الواسعة للراقصات في هذا العصر وخاصة في المدن الحضرية الكبرى كالإسكندرية، إلى حد أن بعض الحكام اضطروا احيانا إلى منع عروض ومسابقات الرقص للسيطرة على امن البلاد.

بالنهاية نتساءل ان كانت الراقصات محتقرات فلماذا امتلأت ساحات المسارح بالمعجبين؟ ولماذا دعوا للرقص في الأعراس؟ ولماذا امتلأت الملابس والستائر وصناديق الزينة بصورهن؟ ولماذا استوحى الشعراء من فنهن القصائد؟ هذا ما سأناقشه في مقالي القادم

لقراءة  ماذا تخبرنا القطع الاِثرية القبطية عن المرأة في مصر القديمة – الجزء الاول – إضغط هنا

83077852_871663743263975_8868534874084999168_n

لقراءة  ماذا تخبرنا القطع الاِثرية القبطية عن المرأة في مصر القديمة – الجزء الثاني – إضغط هنا

د. انجي حنا مدرس الآثار والفنون القبطية بجامعة المنيا. أكملت د. إنجى حنا شهادة الدكتوراه في تاريخ الفن في جامعة ساسكس عام 2017. وتكرس أبحاثها في مجال تاريخ الفن البيزنطي المبكر، وبالتحديد التاريخ الاجتماعي والفن العلماني والنوع الجنسي والإدراك الحسي. كان لها تعاونا مكثفا مع أعضاء هيئة التدريس بجامعة ساسكس. وقد صممت ونفذت دورات حول الفن القبطي، والفن المسيحي المبكر، وتاريخ الفن البيزنطي في مصر والمملكة المتحدة. كتابها “المرأة في مصر القديمة من خلال الفن القبطي” سيعرض قريبا في المكتبات.

** إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني

أضف تعليق