مع تزايد مسؤوليات الأمهات | الحظْر: فرصة للتفكير “داخل” الصندوق!

السبت ١١ أبريل  ٢٠٢٠                            ـ كتبت: ميريام رزق الله

91030720_2936232816471146_3752361876810366976_n
مريم رزق الله

الآن وقد مرت أسابيع طويلة على غلق المدارس وبقاء الأطفال بالبيوت٬ وإذاعة خبر مَد الحجر الصحي في مصر٬ يغلب على الناس الشعور بالضيق والضجر. وفي الوقت الذي تُحاصِر وسائل التواصل الاجتماعي الأمهات بسيل من الأفكار ووسائل الترفيه المختلفة لتسلية أبنائهم وملء وقتهم٬ تشعر بعض الأمهات بالإحباط لتضاعف مسئولياتهن المنزلية مع بقاء كافة أفراد الأسرة بالبيت طوال الوقت. فعملية إعداد الطعام لا تنتهي٬ والحوض لا يلبث أن يخلو من الأطباق حتى يمتلئ ثانية عن آخره٬ والبيت لا يلبث أن ينتهي ترتيبه حتى تعُم الفوضى ثانية.. إلى آخره من الأعمال المنزلية.

هذا وقد أضيف فوق كل ذلك مسئولية جديدة على الأم٬ وظيفة كاملة ومختلفة تمامًا٬ فقد صارت معلمة أبنائها٬ ليس في مادة واحدة فحسب بل في كل المواد٬ بما فيها التمرينات الرياضية كما قالت لي إحدى صديقاتي ضاحكة٬ حتى أن ابنها التلميذ بالمرحلة الابتدائية صار يسمي غرفة نومه: المدْرسة. وعندما تغيب عنه أمه قليلًا لمتابعة أعمال المنزل٬ يحثها على العودة٬ قائلا: “يلا يا ماما نِرجَع للمدرسة!”

وبالطبع تَضَاعُف المسئوليات والهبوط المفاجئ للمزيد منها على البيوت٬ تسبب في بعض المخاوف والارتباك والضيق٬ وهو أمر متوقع وإنساني لكن يمكن التغلب عليه. ورغم أن كل إنسان مخلوق بالقدرة على التكيُّف على ظروف جديدة٬ إلا أن معظم الناس لا يحبون التغيير٬ فهُم يحبون ما اعتادوا عليه٬ حتى وإن كانت ظروف عملهم مثلِا سيئة للغاية٬ فلدينا مَثل شعبي شائع٬ يقول: “إللي تعرفه أحسن من إللي ما تعرفوش.” لكن كل ما في الأمر٬ هو أننا مازلنا “نتعرّف” على معنى مزاولة الحياة من داخل البيت. وبما أن شعبنا دائم الحركة وكثير الصخب٬ فقد صِرنا نخاف من الهدوء٬ ونمجِّد “المشغولية” الدائمة٬ كما إننا اعتدنا واعتمدنا على وِفرة الأنشطة ووسائل الترفيه٬ حتى إننا فقدنا القدرة على شغْل وقتنا مُعتمدين على أنفسنا في غياب هذه الأنشطة الخارجية.

ولكن٬ هل البقاء بالبيت يعني فقط “الحرمان” من كل ما نحبه ونحتاجه ونتمناه؟ أم أنه قد يعني “المزيد” أيضًا ممَّا نحبه ونحتاجه ونتمناه سِرًا؟ هناك مقولة شهيرة للشاعر روبرت براوننج٬ تقول: Less is more٬ ومعناها: “الأقل يعني المزيد.” فماذا لو انصرفنا عن التفكير فيما ينقُص أو يضيع الآن من شكل وتفاصيل حياتنا المعتادة٬ واعتبرنا فترة الحظر هذه دعوة لنا للتفكير خارج الصندوق من “داخل” الصندوق!

فإذا عُدنا قليلًا للحياة قبل الحظر٬ لوجدنا الآباء وبالأخص الأمهات مُنهمكين بالعمل وبِشحْن أوقات أبنائهم بالمزيد من الدروس الخصوصية أو دروس التقوية٬ والمزيد من التمارين الرياضية أو دورات تعليم الهوايات. وهذا يجعل جدول نهار الأمهات مضغوطًا بالمواعيد والجرْي من مكان لمكان لتوصيل الأبناء وإعادتهم. والجري لترتيب البيت٬ وتجهيز الطعام٬ وشراء احتياجات البيت وسط مواعيد الأبناء٬ ثم السقوط على السرير من كثرة التعب والإرهاق بالليل٬ والصحيان في اليوم التالي لإعادة الكرَّة. وحتى عطلة النهاية الأسبوع٬ صارت لا تخلو من التمارين والدروس والمواعيد٬ والوقت الذي يقضيه أفراد الأسرة في هدوء وحميمية معًا صار ضئيل جدا٬ خصوصًا مع انشغال كل واحد بتليفونه المحمول ورسائله الخاصة ومتابعته للسوشال ميديا. فهل نفتقد حقًا كل هذا الزحام؟ زحام الالتزامات والمواعيد٬ وما يتبعه من زحام الشوارع واستنزاف لمجهودنا ووقتنا وأعصابنا؟

Spa
  الحظر: دعوة للخروج إلى الشرفة – تصوير شيرين نبيل

وفي الوقت الذي يردد فيه الكثيرون: “أنا زهقااان”٬ بدأ آخرون في التفكير فيما يمكنهم عمله٬ لا للاستفادة فحسب من هذا الوقت “الثمين” بل للاستمتاع به أيضًا. وقد يتعجب البعض من كلمة “استمتاع” هذه. لكنني رأيت أفكارًا كثيرة مبدعة وخفيفة الظل قام بها بعض الناس. ومن أمثلتها٬ إن إحدى السيدات٬ التي تعشق الخروج في الهواء الطلْق٬ وجدت إن لديها شُرفة واسعة ببيتها لا يستخدمها أحد٬ فقررت أن تدهنها بألوان مُبهجة وألا تستعين بفنيّ دهانات لعمل ذلك٬ بل قامت بصنْفرة سور الشرفة ودهنه بنفسها٬ كما دهنت منضدة من البلاستيك بلون آخر٬ وأضافت كراسٍ٬ وأحواض ورد ملونة٬ و”بين-باجز” لأبنائها. وأوجدت بذلك٬ في يوم واحد٬ مُتنفسًا ومكانًا جميلًا ومبهجًا لجلوس والتقاء أسرتها كلها بتكاليف بسيطة٬ وفوق كل ذلك استمتعت هي شخصيًا بما صنعَت٬ وخلقت فرصة دائمة لترابط أقوى بين أفراد أسرتها. وهل لم تكن لتفعل كل هذا لو لم تُتَح لها هذه الوفرة من الوقت. لكن يُحسَب لها أيضًا روحها الإيجابية المُشرقة. وهي لم تكتف بذلك٬ بل نشرَت الخطوات٬ التي اتبعتها٬ وتفاصيل وتكلفة الخامات التي استخدمتها على جروب للسيدات بالفيسبوك٬ لتشجعهم على تنفيذ الفكرة.

وحكت صديقة لي أن ابنتيها٬ وهما في المرحلة الثانوية٬ كانتا تطالبانها منذ فترة طويلة بتبني كلب بالبيت٬ وهي كانت دائمة التردد لأن البنتين لا تُساعدان في أعمال البيت٬ فما بالكم بإحضار كائن إضافي يحتاج لرعاية دائمة. فقالت لهما: “حتى يمكنني تنفيذ هذا القرار يجب أن تلتزمان بمساعدتي في تنظيم كافة دواليب البيت وفرز محتوياتها٬ وليس هناك فرصة أفضل من فترة الحظر للانتهاء من هذه المهمة الثقيلة.” ونجحت بالفعل صديقتي في توزيع المسئوليات على أفراد أسرتها٬ وصار الكل سعداء ويضحكون ويتندرون على مدى ترتيب وتنظيم أرفف وأدراج البيت بشكل لم يشهدوه منذ سنوات! تلك أيضًا فكرة يسهل تنفيذها في كل البيوت٬ خاصة وأننا ننتقل من فترة ارتداء الملابس الشتوية إلى الصيفية. فيمكن لكل أفراد الأسرة الاشتراك في فرز الملابس – وهي المهمة التي تقع في الغالب على عاتق الأمهات وحدها٬ كما أنها فرصة لتشجيع الأبناء على الاستغناء عما لا يحتاجونه وما صار لا يناسب أحجامهم٬ والتبرع به للمحتاجين. وبما أن الحظر قد يطول٬ فلو انتهينا من دواليب الملابس٬ يمكننا الانتقال إلى دواليب المطبخ٬ والمكتبة وأدراج الكتب واللعب٬ وما أكثرها.

وحكت صديقة أخرى لي٬ لديها ثلاثة أبناء٬ نقَل زوجها عمله إلى البيت بسبب الحظر٬ وهي تعتني أيضا بحماتها٬ أنها صارت لا تلبث أن تنتهي من تحضير وجبة الإفطار حتى تبدأ في وجبة الغداء فورًا٬ وتقول ضاحكة: “ما بألحقش! الطلَب على المطبخ عالي!” لكن من حُسن حظها أن ابنتيها – وهما بالمرحلتين الثانوية والإعدادية – تحبان صُنع الحلوى٬ وتتباريان في تجديد الأصناف٬ فتتولى الأولى حلوى الغداء٬ وغسل الأطباق بعده٬ والثانية حلوى العشاء وغسل الأطباق بعده. ويمكنني تخيُّل كَم المناقشات الضاحكة التي تدور بين هذه العائلة الجميلة كل يوم حول المائدة٬ ومع كل وصفة جديدة مبتكرة!

Balcony
الأطفال أيضًا يحبون العناية ببشرتهم – تصوير مورين رزق الله 

وبالطبع كلّما صغُر سِن الأطفال٬ كلما قلَّت فرَص تكليفهم بمسئوليات كبيرة من أعمال المنزل٬ وكلّما زادت على الأمهات صعوبة ابتكار المزيد والمزيد من الأفكار والأنشطة لتسليتهم. وكلما زادت أنشطة وألعاب الأطفال٬ كلما زادت صعوبة الحفاظ على البيت مرتبًا لمدة طويلة. وتجد الأم هنا نفسها أمام اختيارين٬ إما أن تقضي الوقت في التنظيف والترتيب٬ والشعور بالضيق والغضب من أطفالها عندما تعود الفوضى في خلال ساعات معدودة. أو أن تتعامل مع الوضع ببساطة٬ وتتقبل الظرف الاستثنائي٬ وتقرر الاستمتاع هي الأخرى باللعب مع أطفالها٬ والاستفادة من هذا الوقت الفريد في توطيد الروابط التي تجمعها بهم. وهذا ما فعلته أختي مع ابنتها البالغة من العمر ٤ سنوات٬ فبعد أن استنفذت الأفكار التقليدية من تلوين وقص ولصق٬ أشْرَكَت ابنتها معها في تحضير بعض المخبوزات والـ”كاب-كيك” الذي تحبه. ثم تفتق ذهنها عن تخصيص يوم للعناية ببشرة ابنتها٬ فوضعت لها شرائح الخيار على عينيها٬ ووضعت قدميها في الماء الدافئ٬ وطلبت منها أن تسترخي! ثم التقطت لها صور غاية في المرح ستشهد بلا شك في المستقبل أن هذا الوقت العصيب الذي يمر به العالم٬ كان من أسعد أوقات حياتهم الأسرية.

نحن لا نعلم تحديدًا متى سينتهي الوباء٬ لكننا – يقينًا – عبرنا كشعب أوقاتًا وظروفًا لا تقل صعوبة عنه٬ وهذا الأمر سيعبُر أيضًا. وإلى أن يعبر٬ كل يوم جديد٬ وكل نفَس جديد هو هدية من السماء٬ فهل نقبلها ونُحسِن استثمارها؟!


** إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني

 

أضف تعليق