تمائم النصر والرخاء والنجاة: تصاوير الرقصات على الفنون في مصر في العصر الروماني المتأخر

الخميس ٢٨ مايو ٢٠٢٠               كتبت –  د. إنجي حنا

ذات يوم، قرب نهاية القرن الأول أو بداية القرن الثاني الميلادي، إحتشد الآلاف من أهل الإسكندرية بساحة أحد المسارح الكبري، أقبل غلام معلنا قدوم الفيلسوف والمؤرخ اليوناني الشهير ديو خريسوستوم الذي حضر إلى الإسكندرية ليلقي خطابه التاريخي لمدة ساعة ونصف. إنتقد الفيلسوف في خطابه أهل المدينة الصاخبة وولعهم بعروض الرقص والمسابقات والتي كانت تؤدي أحيانا إلى إنتشار الفوضى والعنف في البلاد. في سياق حديثه وصف كيف حظيت الراقصات وغيرهن من فناني المسرح والهيبودروم الروماني بشعبية واسعة، حتى انه إقتبس قولًا منسوبًا للشاعر الروماني جوفينال – واصفًا شغف أهل الإسكندرية بالفروسية والرقص والفنون المسرحية الأخرى – فقال “قوم تحتاج فقط ان تعطيهم خبز وفير وتذكره للهيبودروم.”

83042054_2779970902097339_5316386204902490112_nهذا الولع بالفنون سكن قلوب أهل الحضر في مصر الرومانية والبيزنطية، أشارت اليه العديد من النصوص التاريخية التي سجلت حتى القرن السادس الميلادي، فَاِمتَلَأَت المدن الكبرى – مثل أنتينوبوليس (الشيخ عباده بالمنيا) و أكسرنخوس (البهنسا بالمنيا) – بالمسارح و ساحات المسابقات، لم تكن مناظر الرقص و الاحتفالات و عازفي الموسيقى وعروض البانتومايم التراجيدية و العروض الكوميدية مجرد مشاهد مألوفة في حياة أهل المدن، بل كانت أيقونات حيه ألهمت الشعراء والرسامين والنساجين والنحاتين.

إنعكس هذا الشغف على الفن في العصر الروماني المتأخر، لم يكن ذلك انعكاسا ً لشعبية الفنون الاستعراضية بين الرجال والنساء في الحضر فحسب، بل حمل في ثناياه دلالات اجتماعية أخرى، في السطور التالية سأتناول بعض من هذه الدلالات كما عكسها الفن القبطي.

الراقصات تمائم النصر في الاحتفالات الرسمية

99297815_3555053821175750_266269529762430976_n
صورة ١

أشعل التنافس بين الراقصات حماسة الجمهور أكثر فأكثر، حيث نظمت فرق السيرك الروماني – المسئولة عن تنظيم الاحتفالات الرسمية وعروض المسرح – مسابقات للرقص في مصر وكافة أنحاء الإمبراطورية، فانضمت معظم الراقصات في سائر الأقاليم لواحدة من أربع فرق: الفريق الأبيض والأحمر والأخضر والأزرق. كان لكل فريق جمهور من المشجعين يملؤون أرجاء المسارح وساحات السباق بالصياح والتهليل والتصفيق، يبدو ان بعضهم إحتفظ بتصاوير الراقصات بطلات العروض الاستعراضية على ممتلكاتهم الشخصية، في مدينة أنتينوبوليس (قرية الشيخ عباده بالمنيا) وجد مشط قبطي من العاج (صورة ١) – محفوظ الان بمتحف اللوفر – حُفِر عليه بتكنيك التفريغ الرائع منظر لراقصة تدعى هيلاديا في مشهد مسرحي، يصاحب المشهد نقش باللغة اليونانية يعبر عن دعاء صاحب المشط بالحظ الوفير لهيلاديا وفريقها الأزرق.

صورة ٢ & ٣

أحيانا بلغت حماسة المشجعين في كافة أنحاء الامبراطورية حداً أبعد من ذلك ، يبدو ان بعضهم استخدم السحر الأسود بهدف خسارة الفريق المنافس، فقد لجأ شخص ما إلى كتابة لعنة سحرية ضد راقص من الفريق الازرق يطلب من القوى الشيطانية ان تقيد عنق الراقص و يديه و قدميه و أن تخرس اصوات الكورال المصاحب له و أصوات مشجعيه، هكذا ارتبطت صورة الرقص في ذهن المشجع في ذلك العصر بمشاعر الفوز و الحماسة، ربما لهذا السبب زُيِّنت بعض قطع الأثاث و الستائر و الملابس و الحلي بتصاوير لراقصات مرتديات ميداليات النصر (صورة ٢، ٣) و هي ميداليات كان يمنحها الإمبراطور و قادة الرومان للفرسان و الفنانين الفائزين في المسابقات، هكذا أصبحت تصاوير الراقصات تجسيد لأمنيات النصر و الحظ السعيد.

الراقصات رموز رغد العيش

100827470_582409079325727_699693199500771328_n
صورة ٤

ارتبطت مناظر الراقصات أيضا بمعاني الرخاء والرفاهية، في ذلك العصر وحدها العائلات الثرية هي التي كان باستطاعتها دعوة الراقصات لإحياء الأعراس والمناسبات العائلية، وفقًا لعقد عمل وجد بقرية فيلادلفيا المصرية (قرية كوم الخرابة الكبير بالفيوم حاليا) بلغ أجر الراقصة في القرن الثالث ١٢ دراخما في اليوم، في ذلك الوقت كان يتقاضى عامل البناء ٢ دراخما في اليوم. لذلك كان تحمل تكلفة دعوة راقصة في مناسبة خاصة إحدى طرق التباهي بالثراء، لذلك ارتبطت تصاوير الراقصات على بعض القطع الفنية بخلفية معمارية فاخره كالبوائك المزينة و رموز الثراء و الرخاء مثل سلال الفاكهة (صورة ٤).

الراقصات مبشرات بالسلام

100495916_717733098995142_1586426134478716928_n
صورة ٥

أوحت تصاوير الراقصات احيانا بمعاني السلام والنجاة. زينت تيونك قبطية (صوره ٥،٦) (رداء شعبي شائع في العصر الروماني المتأخر) – أحد قطع مجموعة روز شورون الخاصة المحفوظة الان بمتحف جودوين تيرنباك بكوينز كولدج – بتصاوير لفرقة استعراضية مكونه من ٧ راقصين (خمس إناث وذكرين) واقفين في صف يربطهم حبل بايديهم. الراقصان يؤديان خطوات متباعده و كأنها قفزات متتالية و الراقصات يوجهن اجسادهن في اتجاهات مختلفة و ارجلهن متقاطعة في استعراض لخطواتهن الرشيقة، عرفت هذه الرقصة بإسم يرانوس و هي كلمة يونانية تعني “يلف” ، كانت شائعة في أقاليم البحر المتوسط – منها مصر – خاصة بين البَحَّارة حتى القرن الثاني عشر ، الرقصة مستوحاه من أسطورة يونانية قديمة عن هروب الإله ديونيسوس و محبوبته اريادني من الليبرانس (بناء خيالي كالمتاهة يسكنه وحش أسطوري) ، وفقا للأسطورة هربا كلاهما الى جزيرة ديلوس حيث رقصا يدا بيد إحتفالاً بالنجاة، ،وفقا لرأي يوستاتيوس- مطران تسالونيكي في القرن الثاني عشر – رمزت هذه الرقصة للسلام بعد الحرب، رأى يوستاتيوس ان رقصة اليرانوس تجمع بين خطوات القتال متمثلة في قفزات الراقصين الذكور و رقصة السلام متمثلة في خطوات الراقصات.

99367249_382784959357378_2201260482541649920_n
صورة ٦

هكذا كانت الراقصات في فكر المجتمع الروماني والبيزنطي قديمًا، تارة جسدن معاني الشر ومشاعر العار والرفض والاحتقار نتيجة لمظهرهن وسلوكهن الغير مألوف كما ذكرت في مقالي السابق، وتارة رمزن إلى معاني النصر والرخاء والسلام، فهل كان الموقف العدائي تجاههن ناتج عن اختراق صارخ لأخلاقيات المجتمع؟ هل كانت المعالجة الادبية لجوانب من حياة الراقصات متأثرة بأجندة خاصة؟ هل عكست هذه الرسائل المتناقضة ازدواجية المجتمع؟ أم أن معالجة بعض الكتاب لطبقة الراقصات ككل استندت على حالات فردية شاذه؟ هل تعمد قادة المجتمع المعاصرون المبالغة بهدف استخدام تشويه السمعة كعصا للتحكم في سلوك النساء؟ ربما يكون السؤال الأخير هو المفتاح.

لقراءة  ماذا تخبرنا القطع الاِثرية القبطية عن المرأة في مصر القديمة – الجزء الاول – إضغط هنا

لقراءة  ماذا تخبرنا القطع الاِثرية القبطية عن المرأة في مصر القديمة – الجزء الثاني – إضغط هنا

لقراءة ماذا تخبرنا القطع الأثرية عن المرأة في مصر القديمة – الجزء الثالث – إضغط هنا

ً83077852_871663743263975_8868534874084999168_nد. انجي حنا مدرس الآثار والفنون القبطية بجامعة المنيا. أكملت د. إنجى حنا شهادة الدكتوراه في تاريخ الفن في جامعة ساسكس عام 2017. وتكرس أبحاثها في مجال تاريخ الفن البيزنطي المبكر، وبالتحديد التاريخ الاجتماعي والفن العلماني والنوع الجنسي والإدراك الحسي. كان لها تعاونا مكثفا مع أعضاء هيئة التدريس بجامعة ساسكس. وقد صممت ونفذت دورات حول الفن القبطي، والفن المسيحي المبكر، وتاريخ الفن البيزنطي في مصر والمملكة المتحدة. كتابها “المرأة في مصر القديمة من خلال الفن القبطي” سيعرض قريبا في المكتبات.

** إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني

أضف تعليق