الجمعة ٥ يناير ٢٠٢٠ – كتبت ماجدة صالح

جاءنا الخبر في الأسكندرية عن وصول مدرب الباليه الروسي، وإعلان ميعاد إختبارات القبول لدار الأوبرا، مما حثنا ذلك للإسراع بالسفر إلي القاهرة.
وأتي اليوم المنتظر مُحمل بالإثارة والترقب ، وحرصت أمي لأظهر في أجمل طلة ، ضفرت شعري الأسود الطويل وثبتته علي رأسي في هيئة تاج. ولكونها خياطة ماهرة، فهي كانت تخيط كل ملابسي. ولهذه المناسبة ألبستني أجمل فستان خاطته لي .اتذكر فستاني المفضل هذا جيدا، كان فستان مكون من ثلاثة طبقات من الكرانيش مع بلوزة فتحة رقبتها علي شكل سابرينا، وأكمام قصيرة منفوشة، وكان الفستان مصنع من القطن المصري الفاخر، وتناثرت حبات الكريز الأحمر علي خلفيته البيضاء، ولأكمل أناقتي، إرتديت جواربي البيضاء مع حذاء سواريه لميع، ومنحتني هذه الملابس الثقة والتي بها عقدت العزم علي أن أنال إعجاب المدرب.
توجه كل المتقدمين إلي دار الأوبرا وتجمعنا كلنا في البداية، في مجموعات مكونة من بنات وأولاد – نعم كان هناك أولاد أيضا – في الحجرة الخضراء في كواليس المسرح، والتي بالرغم من عدم كونها واسعة بالقدر الكافي الا انها كانت تستخدم كغرفة للتسخين (الإحماء)، وأيضا كغرفة للفنانين لتبديل ملابسهم سريعا وسط العروض، بالإضافة الي استخدامها كغرفة استقبال لهم بعد العروض.
كانت الغرفة تفتقر للأثاث، وكان بها مرآه عمودية كبيرة، وأرضيتها الخشبية باليه وتعتليها الاتربة، وحوائطها داكنة متسخة. اقتنصت أول نظرة لمعلمنا المستقبلي، راقص البالية المحترف القادم من روسيا السيد ” اليكسي جوكوف”، الراقص الرئيسي السابق لفرقة البولشوي الروسية، والمُدرس في أكاديمية البولشوي . كان يقف بين مجموعة من المسؤولين المصريين الذين شعروا بالإثارة لهذا الحدث نظرا لندرة حدوثه. وأتذكرأنه حتي بالرغم من كونه رجل متوسط الطول، ذوملامح عادية ، وملابس غير متناسقة بالمرة، ويرتدي صندل مع جوارب، الا انه كان يتمتع بهالة من السلطة لا تخطأها عين .

إحتشدت المجموعة التي إنضميت اليها، ومُنع أهالينا من الدخول، ونظرنا الي بعضنا البعض بحذر. قسمونا تبعاَ للنوع والسن، واُختيرت المجموعة الاكبر سنا للبرنامج المكثف. تسع سنوات كانت هي مدة برنامج التدريب الأكاديمي الروسي في ذلك الوقت، وكانت تٌعد هذه السنوات مدة طويلة لتخريج الدفعة الأولي من راقصات وراقصي الباليه لدار الأوبرا، ولذا تم إختار مجموعة من المتقدمين الأكبر سنا، والذين كان بعضهم قد تلقي دروس مسبقة في الباليه مثلي.

وبعد إنتهاء الفرز، طلب منا مترجم السيد جوكوف تبعا لأوامره خلع ملابسنا وصولا إلي ملابسنا الداخلية ، وخلع حمالات صدر. “
ماذا؟؟ إستشط غضبا من فكرة إهانة حياء أنوثتي، والتي علي الرغم من سنوات عمري الأربعة عشر لم تكن قد ظهرت بعد نظرا لنحافة جسدي، تشبثت بفستاني بقوة ، بينما سعي مساعدين السيد أليكسي بارتباك لخلعه عني. ومع بعض التحايل والإصرار منهم نجحوا في ذلك، وفي غضب لفعلتهم، عقدت ذراعاي في تجهم علي صدري، والذي لم يكن قد نما بعد.
كان علينا بعدها أن نخضع لإهانة أخري من الفحص البدني الدقيق ، حيث عاملونا كالدمي المصنعة من الاقمشة. اولاً، أوقفونا في صف وأذرعنا الي جوارنا ، ووقف السيد جوكوف الي الوراء يحدق بنا، ويختبرنا واحداً تلو الأخر، وتم استبعاد أول شخص. كان يفحصنا باحثاً عن التناسق النسبي بين الرأس، الرقبة، الأكتاف، الجذع، الساقين والقدمين، ثم أخذ بإقصاء المزيد من المتقدمين .
بعد ذلك، أُرغمنا علي الاستلقاء علي ظهرنا مع رفع أقدامنا حتي تكاد تلامس مؤخرتنا. بعدها، وظهّرنا مشدود ومستقيم علي الأرض بدون تقوس، طلبوا منا ان نثني ساقينا ونسقطهم للخارج . علمنا فيما بعد أن هذا الوضع يسمي “ليجوشكا ” او وضع الضفدع ؛ وكان هذا إختبار يعد أهم إختبار لراقصي الباليه .
بعض الأطفال تمكنوا من ثني أرجلهم في حركة grand plie الأولي، وبسهولة، والبعض الأخر لم يتمكنوا نهائيا ولا حتي مع المساعدة. المزيد من الإقصاءات خارج المسرح . البعض بمن فيهم انا ظنوا انهم غير كفء وسيتم الاستغناء عنا أيضاً ، ولكن لم يكن هناك الكثير من المتقدمين الجدد للسماح لهم للإختيار بدقة أكبر.
في روسيا، لجنة الاختبار يمكنها الاختيار من بين مئات المتقدمين، بل قد يتجاوز العدد الألف متقدم سنويا.. كان هذا هو حجم الطلب للالتحاق في مدرسة باليه حكومية هناك، وإمكانية الحصول على مهنة آمنة كفنان – لان راقصي البالية كانوا يعاملون كسلالة بشرية متميزة في الاتحاد السوفييتي ، كما كان الحال في روسيا القيصرية.!

جاء بعد ذلك إختبار مد الجسد والمرونة
” قفوا بإعتدال “.
” أعطني قدمِك “
نبرة حادة عندما تقوست الساق الخلفية لأحدنا، ” لا تثني ركبتك.”
أيد غريبة أمسكت بنا ومنعتنا من الحركة.
” ساق مرفوعة في الهواء . “فوق فوق فوق، أعلي،”
“حاول أن تلمس أنفك، أُذنك، رأسك من الخلف.”
“رائع ! ظهر مشدود، وإبقوا علي هذا الوضع”.
” ليس بإمكانك القيام بهذه الحركة؟ مع السلامة”
“قف بإعتدال – مرة أخري.”
“إرفع ذراعيك لأعلي”
“قف باستقامة”
يد تدعم اسفل الظهر، يد تضغط علي صدرك بينما أنت في وضع منحني للوراء.
“إنحني أكثر.”
“هل انت بخير؟”
“لا تستطيع الانحناء؟”
“مع السلامة.”
وماذا بعد؟ إختبار دقيق للقدم من حيث الشكل، الأصابع، مشط القدم … أحضروا جردل به الماء، وحلونا واحدا تلو الأخر وأغمسوا أقدامنا في الماء ثم دعونا نمشي أمامهم بينما هم يتفحصون آثار اقدامنا المبللة.
هل آثار أقدامنا بها فلات فوت؟
أقدام غير صالحة لرقص البالية، الاستغناء عن المزيد من المتقدمين. مزيد من خيبة الأمل، وبعض البكاء بسبب الرسوب في الاختبار. أصبح الأمر متعباً للأعصاب بعد ان تقلص عدد المتقدمين بشكل كبير.

ووسط كل هذا، أتذكر تعليق السيد جوكوف عني، “سيقان جميلة”، وكان هذا التعليق مشجعا لي.
كم من المزيد من الاختبارات التي علينا اجتيازها؟
القفز في الهواء.
وضع السيد جوكوف يده على بعد مسافة من رأسي وطلب مني أن اواصل القفز علي قدماي الاثنتين حتي يطلب مني التوقف.
“دعي رأسك تلمس يدي. علي أعلي أعلي.”
“حسنا أبقوها.”
الأخرون الذين لم يتمكنوا من القفز، او التحليق الي ارتفاع مقبول تم الاستغناء عنهم.
جاء بعد ذلك إختبار الأذن الموسيقية
بدأ احدهم عزف مقطوعة موسيقية علي البيانو.
فالس. سير في خطوات منظمة، سير في دائرة حول الغرفة، مع إيقاع الموسيقي، تصفيق مع إيقاع الموسيقي، المزيد من السير والتصفيق بالتبادل مع الايقاع.
” إستمروا ، إستمروا “
البعض لم يكن لديهم أذن موسيقية بالمرة، وتم إستبعادهم .
وأخيرا انتهت الاختبارات.
صفصفت المجموعة في النهاية علي ٣٥ فردا، شكرونا وأبلغونا بأنه سوف يتم إخطارنا بالنتائج لاحقا. علمت فيما بعد أني نجحت في اختبارات القبول، وابتهجت كثيرا لذلك، ومن هنا كانت بداية مسيرتي المهنية كراقصة بالية محترفة
** إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني