كتالوج الأمومة وما لا تحكيه الأمهات! | كتبت سلمي محمود

الإثنين ٥ أكتوبر ٢٠٢٠
كتبت : سلمي محمود

Monkey Business Images/Shutterstock.com

“بعض الناس يظنون أن أكثر جزء مرعب هو دخول المستشفى لولادة الطفل، لا أكثر جزء مرعب هو مغادرة المستشفى مع الطفل

وسط تخوف من جانب الزوجان “ريبيكا وجاك” في أحد مشاهد مسلسل “This is us” تجاه دخول الزوجة المستشفى لتنجب، إذ كان الأمر يبدو مأسويًا بحكم حمل “ريبيكا” في ثلاثة أطفال، باغتهما طبيب التوليد بتلك الحقيقة الصادمة التي يبدو إنها كانت غائبة عنهما لبرهة، إذ ينتهي الخوف المصاحب لعملية الولادة بمجرد إنجاب الطفل أما ما قد يبدو مرعبًا حقًا هو الخروج من المستشفى رفقة طفل أصبحت مسئولاً عنه كليًا ولا مجال للعودة!

إن فكرت في الأمر سترى كيف يبدو حقيقيًا ومرعبًا بالفعل!، فالخوف يصيب معظم النساء عادةً بدءًا من تلك اللحظة التي يتأكدن فيها من حملهن، إذ تخفت شيئًا فشيئًا مشاعر البهجة والحماس وانتظار المولود لتحل محلها مشاعر التوتر والخوف للدرجة التي لا يستطعن معها التمييز إن كن يردن إبطاء الزمن حتى يتأخر وصول الطفل أو إسراعه حتى ينتهي هذا الكابوس سريعًا!

يسيطر الخوف على كافة خفايا حياتهن بدءًا من أن يكسبن الكثير من الكيلوجرامات، أو يؤثر الحمل على ملامح أجسادهن ويخلف أثارًا لا تمحى بسهولة، بل وقد تعتريهن أحيانًا هواجس بشأن أن يولد الطفل مصابًا بعيوب خلقية أو أن يفقدن الجنين في مراحل متقدمة، وصولاً للخوف من عملية الولادة برمتها، كما تُضيف هرمونات الحمل لمسة توابل حارة تُصعب الأمر عليهن أكثر وأكثر!، وأحيانًا تمتد تلك الغيوم لما بعد الولادة لتصاب بعضهن باكتئاب يصل بهن أحيانًا إلى كره الطفل المولود وربما أنفسهن!

وسط كل تلك الغيوم العابرة يأتي دور هاجس أخر وهو تربية الطفل أو “هاجس الأمومة” بوجه عام، الذي يبدأ منذ ولادة الطفل وأحيانًا يستمر طيلة حياتهن وكأنه مرض مزمن لا علاج له!

كتالوج الأمومة … هل الأمومة صعبة لهذه الدرجة؟

لحسن الحظ أو لسوءه! هناك كتالوج افتراضي كُتب خصيصًا للأمهات في مجتمعاتنا مفترض أن يسرن وفق خطواته مهما كلفهن الأمر، بل ويقودهن إلى كل الطرق التي من المفترض أن يسلكنها بدقة تامة، كتالوج جُمع على يد الجدات من قبلنا وتوارثته الأمهات من بعدهن ومازال يجد طريقه بين الأمهات الجدد، يضم مئات الصفحات التي يحوي كل سطر بها صفعة تهبط على وجهكِ لتترك أثرًا لا يُمحى ولو بعد حين!، يتصدر صفحاته الجميع بينما تأتين أنت في الصفحة الأخيرة التي ينساها الجميع ولا يلتفتون لها، كتالوج ساهم في تحويل شعور الأمومة المبهج، إلى عقاب أو “توريطة” أبدية لا يستطعن الإفلات منها دون خسائر!

كتالوج أضر الجميع، جعل النساء يظنِنَ بأن تربية الأطفال أو الأمومة عمومًا مهمة انتحارية مستحيلة، حول مشاعر الأمومة الجميلة إلى حجر ثقيل الوزن يجثم على قلوب الأمهات، بث في أنفسهن الشعور بالذنب وعدم الثقة، أوهمهن بشبح المثالية الزائفة وربطه بنجاح أمومتهن!، وفي نفس الوقت كان ضرره جليًا على أولادهن من الكثير من النواحي التي لو تطرقن لها لبقينا الليل بطوله نتحدث عنها!

ربما تغير الوضع حديثًا بحكم اختلاف الثقافة وتطور العصر الحالي بالإضافة إلى توافر الكثير من مصادر المعلومات من وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وخبراء الأمومة وتربية الأطفال والذي تمحور شغلهم الشاغل في هدم أثار ماضي الأمومة العتيقة والبدء من خلال استراتيجية جديدة تضمن خروج جيل جديد من الأمهات المثاليات المواكبات للعصر!

لكن هل بالفعل تغير الوضع، هل اختفت الإرشادات أو القيود التي عفا عليها الزمن أو حتى قل حجمها مع كل تلك التطورات الحديثة؟ الإجابة لا، فما حدث هو إن عدة صفحات إضافية أضيفت للكتالوج وبضع سطور تم تحريرها وتبديلها بأخرى جديدة تحمل قيودًا أعتى ومعايير أشد للأمومة المثالية!، حيث مازالت الأم تحتل المركز الأخير في الكتالوج بل وازدادت المسؤوليات والمعايير من قبلها صعوبة واستنزافًا لحياتها التي ذابت في حياة أبنائها، ضلت أحلامها طريقها، استمرت التضحية اللانهائية ذاتها، أما الشعور بالذنب فمازال يجد طريقه لها في كل وقت .. يمكن القول بأنها مازالت تعاني!

 Photograph: Getty Images

نضحي بالأم حتى يعيش الطفل!

منذ القدم ونحن نتربى على نموذج الأم المثالية التي قد تضحى بكل شيء من أجل أطفالها دون انتظار شكر أو مقابل، تحترق من أجل الأخرين وعلى وجهها ابتسامة رضا، تفني حياتها في العطاء لأطفالها والتفاني في رعايتهم دون تذمر أو غضب، فدائمًا ما ترتبط الأمومة بالتضحية والإيثار منذ اللحظة الأولى التي تشعر بأقدام طفلها تتحرك بداخلها.  

هل تضحية الأمهات تجاه أطفالهن شيئًا يمكن الحديث عنه بالسوء؟ بالطبع لا ولكن هنا لا نتطرق إلى العطاء الذي تقدمه الأم بدافع الحب ولكن نوعًا أخر من التضحية اللامنطقية التي تُجبر عليها الأم بضغط من المجتمع والأهل والأصدقاء ليتحول الحب أحيانًا إلى أسلاك شائكة تنغص حياتها وتقلبها رأسًا على عقب!

التضحية المجحفة التي أصبحت تأخذ أشكالاً قاسية وغير عادلة، تجبر الأمهات على تهميش ذاتهن والتخلي عن أحلامهن الخاصة مقابل وهم المثالية الزائفة، فلا وجود لأحلامك إنما فقط أحلامهم. فمنذ أن تنالي شرف لقب أم عليك توديع طموحك، عملك وذاتك دون تفسير منطقي وكأن الأمومة تتعارض مع تحقيق الذات!، لا وجود لوقت فراغك والترفيه رفقة الأصدقاء وارتياد صالونات التجميل، بل أصبح وقتك بالكامل مخصص لأطفالك دون غيرهم، لا وقت للراحة والتقاط الأنفاس، عليكِ الاستمرار في العمل كالترس في الماكينة، وقت مرضك لا مجال للاسترخاء وأخذ قسط من الراحة، يجب أن تكملي طريقك في أشد الظروف قسوة دون كلل أو ملل، عليكِ الاستمرار في زواج فاشل من أجل الأطفال فهل ستتركينهم يتشردون؟، حتى قطعة الحلوى التي تفضليها صار عليكِ التنازل عنها لإرضائهم!

الضغط الاجتماعي الذي يُمارس على الأم مرارًا وتكرارًا أصبح يدفعها إلى التأقلم والاعتياد على وضع لا تحبه ولا تريده بالمرة، فمَن سبقوها أقنعوها بأن تلك التضحية هي الضريبة التي لابد من دفعها ولو على حساب كل شيء حرفيًا لكي تنال وسام الأم الناجحة!

ذنب الأمومة

إن حاولت أحداهن الإفلات من تلك القيود والسير عكس التيار، سرعان ما تشعر بتلك الوخزات المؤلمة التي تعبث بضميرها وتشعر معها وكأنها ارتكبت ذنبًا لا يغتفر وليس حقًا طبيعيًا من حقوقها!، فالشعور بالذنب والتقصير أصبح ملازمًا لشعور الأمومة يرتبط بكل موقف أو فعل تقوم به الأم في حياتها اليومية، فدائمًا أنتِ الطرف الملام في كل أزمة أو مشكلة، وحتى بدون وجود أي خطأ أو تقصير تجدين دومًا أصابع الاتهام توجه دون رحمة أو شفقة!

فطفلك يشعر بالوحدة لآنك لم تمنحيه أخًا؛ تأخر في الكلام ربما لأنك لا تحادثيه بما يكفي؛ وزنه ضعيف ويبدو شاحبًا يبدو إنك لا تطعميه جيدًا؛ عنيف هذا بفضل قسوتك عليه؛ مستهتر بسبب دلعك الدائم له؛ تتركيه يعتمد على نفسك، مازال صغيرًا على ذلك أليس لديك وقتًا لخدمته؟؛ تتركينه في المنزل وتذهبين إلى عملك، أي أم مستهترة أنت!؛ يتعلم رياضة واحدة؟ لكن كل الأطفال تتعلم أكتر من خمسة رياضات مختلفة، لماذا لا يكون مثلهم؟؛ يبكي باستمرار لأنك تأخرك في عملك وتركتيه وحده؛ أين كنتِ عندما جرح وجه هكذا؟؛ تقضين وقتك بصحبه أصدقائك بينما يحتاجك هو بجواره، يبدو إنكِ لا تعرفين معني الأمومة؛… مستهترة، جامدة، متساهلة، جاحدة والقائمة تطول، فدائمًا ما تلاحقك مئات الألسنة التي تشبه السيف من حدتها أينما ذهبت لتحطم من عزيمتك وتقلل من ثقتك بنفسك وتصفك بأقصى أوصاف عدم المسؤولية والأنانية؛ألسنة تخبرك بأن مهما فعلتِ لن يكون ذلك كافيًا بل ستطالك مقصلة المزايدات دون رحمة أو شفقة!

وسط كل تلك الضغوط تكره الأم الأمومة، تختفي المشاعر الجميلة ويحل مكانها الرغبة الغضب والضغط النفسي وعدم الرضا، تشعر دائمًا بالضغط برغبة في الهروب وترك كل شيء ورائها ولكن العاطفة تغلبها في كل وقت! البعض يصمدن يلقين بكل شيء عرض الحائط ويكملن طريقهن بهدف تحقيق أهدافهن أما الأخريات فيستسلمن للضغوط ويتراجعن عن كل شيء مقابل الصورة الذهنية كأمهات مثاليات حتى ولو على حساب أنفسهن!

ختامًا

أتمنى لو تضرب كافة الأمهات بمثاليتهن عرض الحائط، ألا يسرن وفق النظام الصارم للأمومة الذي ابتدعه البعض دون مراعاة للفروق الشخصية والظروف الخاصة! بل يستمتعن بأمومتهن الخاصة بما تحمله من حب وبهجة وأيامًا سعيدة، وأيضًا حزن وتوتر وأيامًا قاسية. أتمنى أن يعلمن أن النجاح كأم مرتبط بالتأثير الذي تتركه كل منهن في نفوس أطفالهن وليس بوسام المثالية الذي يمنحه لهن المجتمع!، وأن يدركن أن الجميع معرض للخطأ، وأن طلبك للدعم والمساعدة لا ينقص من قدرك كأم بل يعينك على تخطي الكثير من المواقف بأقل قدر من الخسائر. لا تسمحي لأحد أن يقلل من تجربتك مع الأمومة ويضعف ثقتك بنفسك أو يلقي عليكِ حمولاً زائدة، فقط افعلي ما ترينه مناسبًا فأنت الأدري بالطريقة الأنسب لتربية أطفالك، وثقي بأنك طالما تحاولين وتبذلين جهدك فأنت على الطريق الصحيح مهما كان رأي من حولك.

أخيرًا أعلمي الأمومة ليست نهاية المطاف، فكونك أم لن يسلب منك حقك الطبيعي في العمل، استكمال دراستك، النجاح، الاستمتاع والراحة خارج إطار الأمومة، الحياة بالطريقة التي تفضلينها، فلا تفني حياتك في إثبات أي شيء لهم وتخسرين نفسك وسعادتك ونجاحك في المقابل، اتركي مساحة لأطفالك للمساعدة مادام يستطيعون ذلك، امنحيهم الحب والحنان والمشورة وقت الحاجة، صادقيهم واجعليهم يشاركون في القرارات والاختيارات الأسرية وعلميهم الاعتماد على أنفسهم ليكونوا عونًا لكِ في المستقبل بدلاً من أن يصبحوا حملاً ثقيل الوزن، وأخيرا فكري في صحتك النفسية والعقلية والجسدية فليس هناك مانع من نيل القليل من الراحة والهدوء بين الحين والأخر لاستعادة نشاطك وتركيزك المفقود وتذكري أن سعادة الأم ونجاحها وصحتها ينعكس إيجابيًا على كل أفراد الأسرة وعلى نفسها قبل كل شيء!.

31530792_2118869535025007_2375980014135934976_n
سلمي محمود

إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني **



One comment

  1. تدوينة مؤثرة و تلامس القلب .
    فعلا ً الأمومة طريق محفوف بالورد و الشوك ، الفرح و الألم .
    و في هذه الحياة ، لكل شيء ثمن . و ثمن الأمومة يستحق .
    شكرا لك

أضف تعليق