«هي والعنف»… كيف تحول الجاني إلى مظلوم!

٦ ديسمبر ٢٠٢٠
كتبت – سلمي محمود

تجلس «هي» متكئة على أريكتها داخل غرفتها التي أغلقت بابها لتبقى بعيدًا عن الضجيج فضجيج عقلها حتمًا يكفيها، الظلام الدامس والصمت المُطبق يخيم على أرجاء الغرفة ليزيد المشهد بؤسًا وتراجيدية، بينما تُحدق «هي» في الفراغ من حولها بنظرات يغلب عليها الحزن والضعف والخوف مجتمعين، تغزو ملامح وجهها مشاعر الصدمة والحيرة معًا وإن دققت النظر أكثر لوجهها ستلمح تلك الدمعة الصغيرة التي أفلتت من عينيها سهوًا لتسقط على حافتي وجنتيها دون أن تشعر، داخل عقلها تدور مئات التساؤلات التي لا إجابة لها وتعبث بها الكثير من الأفكار السوداوية التي تؤرق حياتها وتسرق النوم من عينيها، مشهد لم يعد غريبًا عليها إنما أصبح جزءًا من معاناتها اليومية المعتادة!

أفاقت «هي» من غفوتها فجأة لتتجه صوب المِرْآة كما اعتادت أن تفعل، لم تكن المِرْآة تمثل لها مجرد أداة تتأمل فيها انعكاس صورتها، لم تكن تقضي عشرات الساعات أمامها مثلما تفعل الفتيات لتضع مساحيق التجميل أو تتأمل أناقتها أو تجرب قَصة شعرها الجديدة قبل أن يراها الأخرين، إنما كانت المِرْآة لها مدلول أكبر وأعمق من ذلك.

كانت المِرْآة أشبه بآلة زمنية هكذا تبدو!، تلك التي نراها في أفلام الخيال العلمي وتمنينا أن نحظى بمثلها يومًا لربما لنتمكن من تغيير قرارًا سيئًا عكر صفو حياتنا أو لنتصرف بطريقة مغايرة لما تصرفنا بها في موقف عابر، أما “هي” فكانت تركب آلتها الزمنية لا لتُحلق في سماوات الخيالات والأحلام الحمقاء إنما لتأخذها في رحلة مطولة قاتمة نحو ذكريات الماضي الحزين ولحظات الحاضر الأليمة واحدة تلو الأخرى وكأنها تشاهد فيلمًا مأساويًا لا يحضره سواها.

خلال رحلتها تقابل ضيفة ثقيلة ولكنها مميزة، تقابل «هي» التي تمقتها! ربما لأنها ترى فيها كل عيوبها وما تخفيه قسمات وجهها، تذكرها بكل مآسيها وتلقي عليها الأسئلة الأصعب التي لن تُريحها إجاباتها، تعتقد في كل مرة أنها تستطيع البوح أمامها بما لا تستطيع أمام غيرها لتنزع عن جسدها غطاء الخوف والألم، ولكنها بمجرد التقاء العينين تنهار وتفقد القدرة على المواجهة ربما لأنها تعلم أن الحوار الذي سيبدأ لن يُحسن حالتها إنما ستسوء أكثر من ذي قبل.

تُذكرها ذاتها المحطمة «هكذا يمكن تسميتها» بمشاهد مأسوية يومية حُفرت بداخلها لسنوات وأبى عقلها أن يطويها في غياهب النسيان، تعيد عليها كل خيبات الأمل والقهر والظلم التي عانته، كل الأيام التي ابتسمت فيها بدلاً أن تنهار وتصرخ بأعلى صوتها، كل الليالي التي قضتها ساهرة، متسائلة إن كانت هي المخطئة وهي تعلم أنها ليست كذلك، كل اللحظات التي أدعت فيها أنها بخير فيما كانت جراحها الداخلية تنهش في روحها، كل مرة عُنفت فيها وفقدت معها جزءًا  لن يعود من روحها، كل مرة اعتقدت أنها محت أثار العنف بمساحيق التجميل لكن جرحها الداخلي كان أسوأ وأعمق، كل مرة سامحت على انتهاك روجها وجسدها على أنها أخر مرة ولم تكن ابدًا الأخيرة!

كل جزء في انعكاس صورتها يذكرها بمأساة أخفتها كثيرًا حتى اعتقدت أنها نسيتها ولكن هيهات!، عينيها الزرقاوين يذكراها بتلك الكدمة التي قبعت طويلاً أسفل عينيها ولم تنجح محاولات مساحيق التجميل في إخفائها، تلك الكدمة التي ظلت على إثرها ساهرة لساعات طويلة متسائلة عن أي خطأ اقترفت؟، هل تفوهت بكلمة خاطئة؟، هل ارتفع صوتها قليلاً؟، كل ما تذكره أنها كانت تحادثه بصوت غير مسموع أقرب للهمس، كانت تطلب منه شراء بعض احتياجات المنزل ثم فجأة تلقت ضربة طرحتها أرضًا، ولكنه أعتذر! فهو بالتأكيد لم يكن يقصد إيذائها وأيضًا ربما هي مَن استفزته وأجبرته على اللجوء للعنف معها، هكذا أقنعتها أمها ولهذا سامحته هي!، تكرر الأمر كثيرًا بعدها، لا تعرف إذا كان أصدقائها قد شكوا في أي شيء في علاقتها معه، الجميع يراه زوجًا مثاليًا، دائمًا يقولون ذلك عندما تبادر بالشكوى أو فقط «تفضفض» للحد الذي يجعلها تتصور أنها تتخيل أشياءًا لم تحدث وأحيانًا يصل الأمر إلى التشكيك في قدراتها العقلية!

شعرها دومًا يذكرها بأمها، لا بسبب كونها ورثت نعومته ولونه الذهبي منها ولكن لأنه يذكرها بتلك العلقة الساخنة التي أخذتها منها عندما كانت صغيرة، تتذكر تفاصيلها كما لو كانت أمس، عادت من المدرسة متأخرة قليلاً لأنها وقفت تتسكع رفقة صديقاتها، أشترت غزل البنات وبعض الحلوى وعادت فرحة إلى منزلها لكنها اصطدمت بوجه أمها الغاضب، سألتها عن سبب تأخرها فأجابتها لكنها لم تصدقها!، حاولت تبرير موقفها ولكنها لم تحصل سوى على عدة صفعات متتالية على وجهها واتهامات لم تفهمها ولكنها رغم ذلك كانت قاسية على مسامعها ثم أنهت والدتها فقرة التعذيب بشد شعرها بقسوة رأت بعدها خصلة من شعرها تتدلى على أرضية الغرفة في انكسار يشبه كثيرًا انكسار روحها، لم تكرهها بسبب ذلك وإن تكرر الأمر كثيرًا لكنها أمها وبالتأكيد لم تقصد إيذائها.

تمسك قلم الحواجب لترسم حاجبيها، تترك القلم للحظات ثم تتذكر الحادثة، هنا حصلت على أول غرز في حياتها، مازالت تشعر بالألم كلما لمست حاجبها الأيمن، تتذكر حينما كان أخيها يشاهد المباراة يبدو أنه كان في حالة عصبية ليست جيدة إذ أن فريقه كان متأخرًا في النتيجة ويقترب من خسارة اللقب، كانت تحادثه ليساعدها في حمل بعض الأشياء الثقيلة داخل المنزل لأنها لا تستطيع حملها بمفردها لكنه بدلا من الاستجابة لها قذفها بشيء ثقيل انفتح حاجبها على إثره وسالت الدماء في كل مكان، بكت وانهارت أما هو فلم يعرها اهتمام وأكمل المباراة وكأن الحدث هينًا أو أنها لا تمثل له شيئًا .. ثم اعتذر وقبلت هي اعتذاره فربما كان خطئها تلك المرة أيضًا!

تشتم رائحة الدماء وتتذكر أبيها هكذا تفكر حينما ترى أنفها المدبب!، تتذكر تلك الليلة المشؤمة التي اصطحبها فيها إلى عيادة قديمة تبدو أشبه بكهف مظلم مخيف، مازالت تتذكر المشهد بأكمله، رجل ضخم الجثة يحمل في يده «موس» ثم يشد يديها نحو غرفة مظلمة ثم يوجه الموس إلى المنطقة الحساسة في جسدها لتنفجر الدماء منها وتشعر معها بألم لا يوصف مازالت تبعاته تطاردها حتى الأن، لم يرحم أبيها ضعفها، لم يستجب لتوسلاتها إنما تركها تواجه تلك التجربة القاسية التي أثرت عليها سلبًا ليومنا هذا، لكنه كافأها بعد فعلته تلك بقطعة حلوى كبيرة أكلتها ثم مسحت دموعها وسامحته!

قسمات وجهها تذكرها بصديقاتها، كلما تنظر إلى وجهها تتذكرهن، تتذكر كلماتهن القاسية، سخريتهن من شكلها، ملابسها وكل شيء، كان حديثهن أشبه بالسهام الحارقة التي تخترق روحها وبسببه قضت أوقاتًا طويلة تبكي وتلعن حظها السيء، لكنهن صديقاتها ربما كن فقط يمزحن أو لم يقصدن الإساءة هكذا اقتنعت وأبقت على صداقتهن!

تلمس «هي» ذراعها لتتذكر معها لحظة لن تنساها وهي أول محاولة تحرش، كانت صغيرة آنَذاك لكنها مازالت تتذكر تلك اللحظة التي حاول شخص فيها انتهاك جسدها ولمس ذراعها في أحد المواصلات العامة، حاولت الابتعاد عنه لكنه التصق بها أكثر وعندما انتفضت في وجهه وواجهته أنكر كل شيء بل وأدعى أنها من كانت تحاول التحرش به!، الغريب آنَذاك هو موقف من حولها هؤلاء الذين ألقوا اللوم عليها بحجة “ضيق ملابسها” وتركوه ينجو بفعلته، تتذكر دومًا حديثهم وتلوم نفسها وتفكر ربما ملابسها هي حقًا ما دفعه للتعدي عليها، ربما كانوا محقين!

هذه ليست قصة واقعية ولكنها ليست أيضًا قصة مختلقة من وحي خيالي، «فهي» ربما تكون انا أو أنتِ، كلنا تعرضنا إلى العنف بمختلف أشكاله مرة واحدة على الأقل في حياتنا، منا مَن أخذت موقفًا صارمًا وتصدت إلى العنف المُمارس ضدها وأوقفت المُعنِّف عن أفعاله ومنا مَن حذون حذو صديقتنا تلك ظللن يسامحن ويسوقن الأعذار لهم على إيذائهن بل ويلومن أنفسهن وكأنهن الجاني وليس المجني عليه، لم يتوقف الأمر على إيذائهن نفسيًا وجسديًا فقط بل خسرن أنفسهن، ثقتهن بأنفسهن وكل شيء!.

المجتمع ساهم في ترسيخ مبدأ التماس الأعذار للمُعنِّف ولوم الضحية؟ نعم، ربما لم يملكن قرارهن واستجبن للأمر الواقع وحاولن تقبله ليخففن من حدة وسوء الأمر؟ نعم، ربما لم يعرفن حقوقهن من البداية واعتقدن أن «العنف» شيئًا عاديًا وقد يكون هناك سببًا له في كثير من الأحيان؟ نعم، ربما وربما لكن النتيجة في النهاية واحدة «العنف جريمة ولا مبرر للعنف مهما كانت الظروف وكل شيء».

اتمنى أن نعي جميعًا ذلك بل ونحارب لأجله، نقف بجوار بعضنا البعض، نساعد، نُعلم بعضنا حقوقنا ونبحث عن حلول لمساعدة الضحية وعقاب الجاني، ونتذكر ونذكر بعضنا دائمًا أن العنف بمختلف أشكاله نفسيًا كان أم جسديًا جريمة، المُعنِّف مجرم مهما كان توصيفه قريبًا أو غريبًا، المُعنَّفة ضحية مهما حارب الجميع لإثبات عكس ذلك ولا يوجد أبدًا ما يبرر العنف مهما كانت المبررات والبراهين ..

31530792_2118869535025007_2375980014135934976_n
سلمي محمود

إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني **

أضف تعليق