صانعة الشمع  | قصة قصيرة لرشا سنبل

١٨ نوفمبر ٢٠٢١
قصة قصيرة لرشا سنبل

إهداء الي طارق كمال

يقولون أن الروائح تُحي الذكريات، بينما في حالتي الذكريات هى التي بعثت الروائح..

 فتشت عنه طوال سبعة أشهر كاملة، دون جدوى، فنزلت للسير ليلًا، لعلي أجد وجهًا يماثل وجهه، أو صوتًا يشبه صوته، الطريق شبه خالي، ولا شيء ملفت للنظر، ليلة صيفية خانقة، تبخل علينا بنسمة هواء عابرة، فقررت العودة للمنزل، لأفعل ما أمسيت أجيده في الآونة الأخيرة، إغلاق كافة أنوار المنزل، ما عدا مصباح صغير، وإشعال شمعة معطرة، ثم المكوث في الكرسي، أقلب بجهاز التحكم في التلفاز بيد، وبالأخرى ألتهم شيئًا ضارًا، تبحث عينايّ عما يثير حماسي فلا أجد شيئًا، من بين أفلام طالما عشقتها، وبرامج أهتممت بها سابقًا، بعد يأس، أندس في الفراش، لأتقلب فيه، كسمكة تقلى، فالنوم يصل لأجفاني المجهدة، ولعقلي المشوش، بعد ساعات من الأرق. 

اخترت السير ليلا، كي لا أصادف أحدًا، بحثًا عن شيء لا أحدده، فلمحت بائعة تين، تجلس في زاوية غير مضيئة من الشارع، تبيع ثمرات متبقية، كمية قليلة في قفص خشبي صغير، نادت عليّ: 

– ما تشتري مني الكيلو الأخير ده خليني أروح..

ابتسمت لها، كنت قد قاطعت التين منذ وفاته، كان يحبه، يشتري منه كميات كبيرة، يغسله ويقدمه لي: 

– ده مذكور في القرآن!

أمد يدي، أضع تينة كاملة في فمي، وأضحك، ثم أجمع أفضل الثمرات، أعقدها بالسكر وأصنع له منها مربى، يحب رائحتها، وطعمها.

اشتريت منها الكيلو الأخير الذي معها، أجزلت لها العطاء، فقالت بصوت جميل، ربنا ينولك مرادك! اعتبرتها إشارة لشيء ما قد يأتي، تبدو كلمات الغرباء ذات معنى قوي في نفوسنا، لكنني لم أعرف ما هو، تأملت جلستها المرتخية، جلبابها مزركش بلون أخضر، وعلى رأسها خمارًا محسور، يُظهر مقدمة شعر مفروق، ومضفر، ويتدلى من أذنها، قرط على شكل دائرة. 

غسلت التين وجففته، وبدأ يذوب في السكر، فتولدت ذكرى، سبحت فوق البخار المتصاعد من الإناء، كانت كاملة الحياة، كعرض تلفزيوني أو سينمائي، مسكتها بحرص كبير، خشيت أن تتبخر من بين أصابعي، فوضعتها في أحد البرطمانات، الذي أعددتها لحفظ مربى التين، وأغلقته جيدًا.

– عارف حبك للبرطمانات، خدي ده!

نظرت له بحبور، ثم بدأت غسل البرطمان! يعلم عشقي لتلك الأوعية الزجاجية، فهى تُظهر ما بها، لا تبخل علينا الرؤيا بمكنونها، فكلما رأيت أحدها، أغسله وأجففه وأحتفظ به ليؤدي دورًا آخر غير الذي كان يفعله، أحفظ به شيئًا جديدًا غير ما كان به، أغلقه، وأضعه بحرص على رف مرتفع في أحد الأركان بالمطبخ. 

حينما وجدت تلك الذكرى التي تولدت ظاهرة أمامي، احتفظت بها في البرطمان، نظرت لها لزمن لم أعرف قدره، ثم بدأ وميضها في الخفوت، كشمعة اقترب انتهاء عمرها، فتحت الغطاء، فانبعثت رائحة مميزة، رائحة عرقه، ممزوجة بعطره، ودخان سجائره، خلقت تلك الذكرى الضاجة بالحياة، رائحة خاصة، انتشرت في أجواء المطبخ، لتغطي على رائحة السكر والتين المعقودين، وملأت البيت كله، فجاء ناحيتي في تألق، عجزت عن الكلام، كنت أرتعش غير مصدقة، هل أنا موجودة معه، هل هذا هو، ابتسم لي، وأشار لي بالجلوس مثل ما كان يفعل، يربت على الكرسي براحة يده، كأنه يزيل من عليه كل أثر لأحدهم، جلست، أشتقت لتلك الحركة، ابتسمت له، وبدأ يكلمني، وأنا أنصت له، لا أقاطعه كما أعتدت أن أفعل، كنت أريده أن يسترسل، رغم رغبتي الملحة لأسئلة كثيرة، ظل يتكلم، وأنا اسمعه، حتى خرجت الشمس من مكمنها، شعرت بلسعتها على جلدي، كانت الرائحة قد نفذت، تلاشت من أجواء البيت، وأنطفأ وميض الذكرى.

 شيئًا ما قد اشتعل في نفسي، حماسة قد تولدت كانت خمدت منذ رحل، قمت بترتيب البيت وتنظيفه، رميت أكوام من التراب، والجرائد، وأوراق المطاعم الدعائية، وعلى آخر اليوم، استحممت، مشطت شعري، وغطيت جسدي برداء طويل، وجلست في الشرفة أشرب كوبًا من الشاي، بكوب من الزجاج النقي، وقطعت عودًا من النعناع الأخضر، وضعته بكامله في الشاي، مثل ما كان يفعل، فومضت ذكرى أخرى، دلقت الشاي، وأدخلت الذكرى في الكوب على عجل، ثم غطيته بطبق صغير، مدينة الأسكندرية، كان البرد قارصًا، ونحن ملتصقان بعضنا ببعض، لعل يدفأ جسد أحدنا الآخر: 

– أحنا أكيد مجانين إننا جينا في البرد ده! 

خفت ضوء الذكرى، فتحت الطبق الصغير، فانتشرت رائحة البحر، والرمال، والهواء وكان هو معها، حدثني عن جاليليو، وحتى ستيفن هوكنج، عن كل هؤلاء الذين أحبهم، ولم يقابلهم في حياته، عبقت رائحة نسيم البحر المرحة البيت، فوجدتني استرخي وأمدد ظهري كمن يجلس على الشاطيء، لا يعبأ بشيء، لا يهتم غير بالتمتع بالهواء النقي، ويستجيب جسده للشعور بالراحة، ومرت ليلة أخرى في هدوء كان جفاني لليالي طويلة. 

في الصباح استعددت لاستقبال ذكرى جديدة تومض في أي لحظة، تجلب لي رائحة جديدة، وتفتح بابًا مختلفًا للمتعة معه، ارتديت ملابس تليق باستقباله، وجلست أنتظر، وطالت الجلسة، وأمتد الانتظار، ولم تأت الذكرى، مرت الساعات ثقيلة، وانقضى يوم خلفه يوم، هل اختفت الومضات المضيئة بهذه السرعة، أصابني إحباط كبير، خشيت الوحدة مرة أخرى، من فقده بعد أن وجدته، وظهرت أوجاع جسدي من جديد، والأرق نخر في أعصابي المتعبة، فقررت استدعاء الذكريات عمدًا.

 أشعلت شمعة معطرة، وأطفأت الأنوار، وضعت موسيقى هادئة، جلبت برطمان، جلست في استرخاء، ركزت كل حواسي للتذكر، أردت ذكرى واحدة بعينها، ثبت تفكيري عليها، فتداعت على ذهني واضحة، ذكرى يوم الزفاف، عانينا حتى جمعنا ذلك اليوم معًا، في بيت واحد، كانت سعادتنا تفوق كل شيء، فومضت الذكرى، أدخلتها الإناء الزجاجي على عجل، وأنا أرتعش من الفرح، لقد نجحت في استدعاء الذكرى، ثم بدأت في الخفوت، فتحت الغطاء، فانتشرت رائحة ورود، ممزوجة بروائح الكيكات، والفرحة، انتظرت ظهوره بشغف، لكنه لم يظهر، وبدلًا من أن يأتي هو، وجدت في الإناء نقاط من سائل.. 

لم أفهم أول الأمر، هل عمدية جمع الذكريات أحدثت غلط ما، هل أخطأت في شيٍ في الخطوات، ضربت عاصفة من الأفكار رأسي، تجمدت في مكاني، وأنا أنظر عن كثب للسائل الذي تجمع، ثم أخذت منه نقطة على إصبع يدي، كانت الرائحة غير عادية، لم تقابل حاسة الشم لدي مثل جمالها من قبل.

 مرت أيام وأنا أجمع روائح الذكريات في الأواني الزجاجية، حتى نفذت كلها، اشتريت غيرها، وبدأت أطلق عليها أسماء تعبر عنها، وكلما ملئت برطمان، وضعته في نظام بجوار الذي يسبقه، فامتلأ المطبخ، بالأواني، لم يعد من الممكن وضع المزيد منها، أفرغت غرفة المكتب من كل ما فيها، كان عملًا استغرق مني يومين كاملين، حشرت المكتب والحاسب والطباعة بالصالة، وضعت الكتب بعضها فوق بعض في الردهة، وقمت بانشاء أرفف خشبية بكل جدران الغرفة، ثم بدأت في رص البرطمانات بمسمياتها التي أطلقتها عليها، أجلس كل ليلة وسط تلك الأواني الشفافة، أنظر للسوائل العطرية التي جمعت، أختار أحدها، ثم أجلس وسط ما تفوحه عليّ، الروائح ليست واضحة كالورد أو الياسمين، بل خليط غريب يأخذني حيث كانت الذكرى، فأشعر بالهدوء أو السرور أو الحب أو الرغبة..

 مزجت تلك العطور بالشمع الذائب، وبدأت مشروع الشمع المعطر بروائح ذكرياتي معه، لن احتفظ بتلك الذكريات، والروائح التي أنتجتها، بل سأوزعها على كل من أعرف، ومن لا أعرف..    

رشا سنبل

** إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني

أضف تعليق