ومن «الرفض ما قتل»!

٢٤ يونيو ٢٠٢٢
كتبت: سلمى محمود

سنوات، وسنوات اعتدنا الصمت الذي كان يعني «لهم» الموافقة الضمنية ويعني «لنا» الظلم والقهر، والسكوت خوفًا من ردة فعل الآخرين، وقول كلمة «نعم» التي تدربنا عليها كثيرًا منذ الطفولة، وحتى الشيب حتى حفظناها جيدًا وأصبحت تتسلل من أفواهنا رغمًا عنّا، والتساهل، والتسامح اللذين كان خيارينا الوحيدين بينما الجميع يعتقد أننا نمتلك خيارات أخرى، ويوجهون لنا اللوم على قول «نعم»  بدلاً من الرفض، والتراجع وهم لا يعلمون ما نعانيه.

 يقولون أن العشب دائمًا ما يكون أكثر اخضرارًا على الجانب الآخر؛ ولكن في حالتنا تلك فالعشب هنا كان غير صالح لأي شيء سوى الموت حيًّا!

منذ أن كُنا أطفالًا صغارًا ونحن نتعلم عن خطورة الرفض – وحرمانيته أحياناً -، حُقنت تلك النصيحة بداخل دمائنا طويلًا حتى صارت جزءً منّا لا نعرف للخلاص سبيلًا عنها، وُضع حق الرفض بداخل قمقم مُحرم لمسه، أو التفكير بوجوده من الأساس طيلة حياتنا، أو حتى نجد مَن يُعيننا على فتحه وفق «شروطه الخاصة».

في الصبا تلقينا عِدّة نصائح من أمهاتنا، والنساء من حولنا عن خطورة الرفض في أي موقف، بداية من عدم مناقشة الأب، والأخ إن عارضاكِ «وسماع كلامهما» وتجنبهما حتى لا يستشيطان غضبًا منك، ويحدث ما لا يحمد عُقباه، مرورًا بتجنب مَن يتحرش بك لفظيًا، أو جسديًا، والرحيل في صمت حتى لا تتعرضي للمزيد من الشتائم، والأذى النفسي، والجسدي، وربما التطاول «ومد الأيدي» وقد يُكلفك هذا في النهاية خسارة وجهك، عملك .. وربما حياتك.

Photo by MART PRODUCTION

أما إن طاردك أحدهم سعيًا وراء الزواج منكِ، أو بدء علاقة معك؛ فالأفضل لكِ أن تخسري حياتك المعنوية، وتتزوجيه، أو تدخلي في علاقة معه بدلًا من تشويه وجهك، أو توجيه الأذى لكِ في عملك، أو بين أفراد أسرتك، أو إنهاء حياتك برُمتها، وإن عنفك زوجك، أو تطاول عليك ما عليك سوى السمع، والطاعة؛ لأن طاعة الزوج واجبة من ناحية، ومن ناحية أخرى حتى تتفادي غضبه؛ لأن بعض الرجال – كما نعلم – لا يعلمون كيفية السيطرة على غضبهم أما نحن فنعلم جيدًا!. وإن هددك أحدهم بنشر صورك، أو محادثاتك الخاصة، أو تشويه سمعتك، ما عليك سوى إطاعته فيما يريد وربما دفع مبالغ طائلة له تجنبًا لفضحك، وربما خسارة حياتك!

سنوات طويلة قدمنا فيها تنازلات تفوق عددها، تنازلات خسرنا مقابلها الكثير، والكثير من راحتنا، وكرامتنا، وهدوء بالنا مقابل الحفاظ على حياتنا كما أوهمونا حتى وإن خسرناها مُسبقًا، وبقينا مجرد أشلاء بشر متناثرة نخشى كل شيء، ونسير بجوار الحائط دون اعتراض، أو رفض، أو حتى مناقشة. فعلنا كل شيء لأننا لا نجرؤ على قول «لا»، وتجرعنا مرارة قول «نعم» حتى وإن كانت كالعلْقم التي أفسد كل مُتع حياتنا.

المؤسف أن تلك النصائح كان يتم توجيه عكسها إلى الرجال، فالرفض كان حقًا امتلكوه منذ نعومة أظافرهم، اختيار لم يسعوا له لكنه مُنح لهم على طبق من ذهب، فالرجال في مجتمعنا مسموح لهم بالاعتراض ربما أكثر من القبول، مسموح لهم برفض الأفعال والأشخاص، قول لا للعادات والتقاليد وإدارة ظهورهم لما لا يريدونه، يسمعون منذ صغرهم أحاديث خيالية من النساء أنفسهنّ عن امتلاكهم حقوق لا تُعد ولا تُحصى لا يجب أن يفرطون بها بأي شكل .. «مفيش واحدة تقدر ترفضك، اللي تروح تيجي غيرها هما يطولوا يتجوزوك، أنت الراجل قول لأ على أي حاجة متعجبكش، ارفض، زعق، اشخط، اضرب واحنا نجبس …» وغيرها من الامتيازات الوهمية، والصفات الخيالية التي مُنحت لهم بدون وجه حق، أو مبرر!

وفوق كل ذلك أيضًا تمتلئ الأعمال الفنية، وروايات المراهقة الحالمة بقصص خيالية أبطالها هُن نساء يقدسنّ الرفض، يعجبهم مطاردة الرجال لهن، ومحاصرتهن في كل مكان فهذا بالنسبة لهنّ تعبير آمن عن حبهم لهن، تنطق الفتاة بـ «لا» وهي تقصد «نعم».  فالمرأة لا تقصد ما يتفوه به فمها في كثير من الأحيان، وهي ترفض فقط لتشجيعك على الاستمرار في مطاردتها، وإن فعلت ذلك ستقع في حبك على الفور – مجرد لعبة نسائية نفسية كما تعلم – ، بعضهنّ أيضًا يُحب الصوت العالي، والعنف، والتحكمات الزائدة عن الحد – فالمرأة تفضل الرجل «الحمش» كما تعلمون –  …  أفعال لا يُمكن تفسيرها سوى بمشكلة كبيرة، وأحيانًا جريمة، فأصبحت أفعال رومانسية يدّعي البعض أن النساء يتسابقنّ على الفوز بها … عجبًا لذلك!

بعد ما نسميه بـ «غسيل المخ المجتمعي للرجال» تتولد لدى البعض منهم طاقة، أو ربما امتياز داخلي يمكن تسميته بـ «رفض الرفض»، يرفضون تصديق بأن هناك مَن يرفضهم لذاتهم، وأن هناك مَن ترغب بأشخاص أخرين، هناك مَن قد ترفع صوتها إن تعرض لها أحدهم، وربما تتطاول عليه كمثل تطاوله عليها. هناك مَن قد ترفض الابتزاز، والتهديد، وتسلك طريق أخذ حقها بالعقل، والقانون، هناك مَن تُناقش، وتعترض إن لم يعجبها الحديث .. هناك، وهناك فالجميع ليسوا كمثل الصورة الخيالية التي حُفرت طويلاً في أذهانهم، ودفعنا نحن ثمنها غاليًا.

يتسمرون في أماكنهم، تتعطل حاسة التفكير، والقبول لديهم، ثم يفكرون في الانتقام، والإيذاء، والعنف، والابتزاز، وتشويه السمعة، وتدمير حيوات البعض، وربما القتل، وإنهاء الحياة برمتها. فمَن اعتاد قول «لا»، وأن تكن له اليد العليّا طيلة حياته هل تعتقد أن يتقبل الرفض المقابل بسهولة هكذا؟ 

Photo by Kat Smith

أخيرًا كنت أعتقد أننا مؤخرًا صرنا نمتلك جرأة الرفض حيث تغيرت الثقافات، والعادات، والتقاليد. وصارت تخدم المرأة قليلاً بعد سنوات من قهرها. وأصبح صوتنا عالي يدوي صداه في كل مكان بعد سنوات من كتم أنفاسنا قهرًا سرًا، وطواعيةً في العلن. وكلمة «لا» أصبحت تحتل نفس السطر بجانب كلمة «نعم»، أصبحنا أخيرًا نملك حق تقرير مصائرنا واتخاذ قراراتنا … أو هكذا كنت أعتقد.

لكن الآن، وبالنظر إلى كم الحوادث التي تحدث يوميًّا، وأساسها لا شيء سوى الرفض، أرى الأمر أصبح يزداد صعوبةً، وقسوةً، وقهرًا .. كل يوم صرنا نسمع حوادث مؤسفة عنوانها الرفض. تُقتل تلك لرفضها شخص ما، تُقرر أخرى إنهاء حياتها بعد فضحها، وتشويه سمعتها لرفضها الانصياع لرغبات، وابتزازات شخص ما، تعيش الأخرى حياة تخلو من كل مظاهر الحياة خوفًا من إيذاء شخص ما لها، والسبب لن تصدق .. رفضها له! ونعيش نحن نلتزم الصمت مثلهنّ خوفًا من تكرار تجربتهنّ، وحفاظًا على حياتنا.

ما الحل؟ لا أعلم .. ينصحنا الجميع بالصمت، بقبول الواقع، بإغلاق حساباتنا الإلكترونية، بالسفر بعيدًا، بتغيير نمط حياتنا، وملابسنا، وكل شيء، بتقديم قرابين الطاعة، والولاء. بحبس ألسنتنا داخل أفواهنا رغمًا عنّا. بالاستسلام والرضوخ، والصمت والانكسار، بنسيان حق الرفض والتعامل مع الإجبار على القبول. بنسيان كوننا بشر، وتذكر كوننا نساء خُلقنا لتلبية مطالبهم، ونسيان مطالبنا، بالحفاظ على حقوقهم وإضاعة حقوقنا. نفقد حق الحياة بأكملها حتى يتمكنون هم من النجاة من الموت. يطالبونا بأن نفعل كل ذلك لنحيا وهم يسلبون منّا حق العيش بسلام. بعضنا يقاوم ويصرخ، ويعترض، ويُناقش، ويرفض سلب الحقوق بالقوة، والبعض الآخر يقرر الاستسلام، والرضوخ، والسير بجوار الحائط .. ماذا يحدث؟ النهاية واحدة يقتلنا رفضنا بينما ينهار الحائط على رؤوس الأخريات منا لتفقد كل منا حياتها بطريقتها الخاصة. اليوم قرأنا قصة نيرة التي قتلها رفضها، وغدًا ربما تقرئين قصتي، ويقرأ الجميع بعدي قصتك أنتِ أيضًا. فمادام الرفض جريمة لكل النساء لن نحصل على حق الحياة، والعيش بسلام ما دُمنا أحياء..

** إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني

أضف تعليق