هل أصبح النبلاء هم أشرار الرواية؟ | كتبت سلمى محمود

٧ يوليو ٢٠٢٢
كتبت سلمى محمود

«لا تعبثِ رفقة السيئين»

كأي فتاة صغيرة ولدت في مجتمعنا العربي كانت أولى النصائح التي تلتها عليها أمها هي الابتعاد عن السيئين .. وحينما أتحدث عن السيئين هنا أتحدث عن صورة نمطية حُفرت في أذهاننا لعقود طويلة، صورة تشكلت في البداية في خيالنا من خلال حكاوي الأمهات ثم وجدنا خيالنا يتجسد على شاشات التلفزيون الذي دعم الصورة حتى صارت واقعًا نخشى مقابلته.

رجل دَميم الشكل والأخلاق، لديه عيون جاحظة مخيفة ينبعث منها الشرور والكراهية، يرتدي ملابس مهترئة غير نظيفة لها رائحة سيئة ستفرين منها فور شمها، تحيط به هالة غريبة ليست بيضاء كالملائكة ولكن سوداء كالشياطين، لا يبكى سوى دموع التماسيح، ولا يعرف سوى مشاعر الحقد والكراهية .. هكذا عرفنا شرير الرواية!

قضيت طيلة حياتي وأنا أبتعد عن هؤلاء الأشرار أمثال «محمود المليجي وزكي رستم ودراكولا ولورد فولدمورت»، حُفرت صورتهم في ذهني بعدما حفظت أوصافهم عن ظهر قلب وحُذرت مليّا من الاقتراب منهم حتى لا يُصيبني الأذى .. أعتقدت أن الأمر سيكون أسهل فعقلي أستوعب من هم أعدائي ولديه كافة المعلومات عنهم وسيدلني عليهم فور رؤيتهم، فمن الجيد أن تعرف عدوك في البداية حتى تتمكن من هزيمته!

«لكن السؤال هنا هل كنت أعرف عدوي فعلاً؟»

في إحدى سنواتي الأولى بالجامعة لمحت رجل مُسن يحاول التحرش بإحدى الفتيات في المواصلات العامة، لم يكن الرجل ممن ينطبق عليهم «مواصفات الأشرار التقليدية»، كان كبيرًا في السن، يبدو عليه الوقار والسكينة بينما يُزين وجهه ملامح العجز والطيبة .. يبدو أقرب لصورة أجدادك  وليس أحد المتحرشين التقليديين الذي تخشى الجلوس بجوارهم خشية إيذاءك .. لم تكن الطامة الكبرى حينها بالنسبة لي هي فعل التحرش ذاته ولكن ممن صدر فعل التحرش، رجل لا تنطبق عليه ولا قاعدة واحدة من قواعد الأشرار كيف يفعل ذلك!

سرعان ما بدأ العِقد تنفرط حباته واحدة تلو الأخرى، لم تعد تلك الحالة الوحيدة .. أشاهد بعيني طفل صغير يحاول مضايقتي في المواصلات العامة، واسمع قصة صديقتي عن قريبها الذي يشهد الجميع بأخلاقه وأدبه الجم ثم تتفاجئ بتحرشه بأطفال العائلة، أقرأ قصة صادمة عن طبيب مشهور يتحرش بمريضاته أثناء الكشف، وأتابع حكاية أستاذ جامعي يتحرش بطالباته حتى يمنحنهنّ درجات إضافية، اسمع عن طالب متفوق يبتز زميلته أملأ في مضايقتها، وصديق عمل يُشهر بزميلته بعد رفضها الزواج منه، استمع لحكاية شخص مشهور يعرض خدمات إباحية على فنانات صاعدات مقابل منحهنّ شهرة مبكرة .. وأخيرًا أتحرى قصة رجل عادي يقتل زوجته إثر مشادة كلامية بينهما وغيرهم الكثير والكثير .. نماذج جميعها كانت أبعد ما يكون عن الصورة النمطية للأشرار ولكنها فعلت أسوأ ما هو متوقع من الأشرار أنفسهم.

بدأت أتساءل ترى هل كل ما حُفر بعقلي لسنوات لم يكن سوى مجرد خيال بعيد عن الواقع!، هل من المعقول أن كتيب المواصفات هذا كان مجرد ترهات بالية والواقع مختلف كليًا؟ نعم حينها تأكدت من ظنوني، فالشرير في الواقع ليس دائمًا شخص سيء المظهر، جاحظ العينين، يرتدي حِلة «دراكولا» ولديه نظرات «فولدمورت»، لكن من الممكن أن يتجسد الشر في صورة الطبيب الناجح والأستاذ الجامعي ذو السمعة الطيبة، المشهور الذي يشهد الجميع بأدبه قبل نجاحه، والقريب الطيب، والطالب المتفوق الذي يحبه الجميع, وحتى الرجل المُسن صاحب المخبز المجاور لمنزلك والطفل الصغير الذي يلعب الكرة مع أولاد الحي ليلاً .. لا مواصفات محددة للشرير هنا فالجميع قد تجده داخل قفص الاتهام يومًا!

لكن هل الجميع أصبح يُدرك تلك الحقيقة؟ الإجابة لا مازال البعض يعيش في وهم المواصفات الخيالية للأشرار،  فعندما تطفو  جريمة على السطح ويتورط بها واحد من هؤلاء الذين لا يشبهون «دراكولا»، يتبنى الجميع سياسة الرفض في البداية ثم عدم التصديق والإنكار وأخيرًا التبرير وتحويل دفة الاتهامات نحو الجانب الآخر، لا يتوقع البعض أن تصدر تلك الأفعال من أشخاص بعيدين كل البعد عن الصورة النمطية المغلوطة التي لطالما ارتسمت داخل عقولهم لسنوات عديدة دون أي اعتبار لما يدور في الواقع الحقيقي.

الأمر ذاته يحدث كل مرة، تظهر جريمة جديدة وتحتل الصفحات الأولى من الأخبار اليومية، نبدأ في معرفة التفاصيل، يظهر تورط شخص ما في القصة لا يحمل المواصفات والمعايير الطفولية «لأشرار الرواية»، يصاب البعض بداء عدم التصديق ثم الإنكار .. فلماذا قد يغتصب الطبيب المشهور، وكيف يسرق الشخص الناجح، ولماذا يبتز الطالب المتفوق، وكيف يقتل الشخص ذو المنصب المرموق، كلها بالنسبة لهم أشياء لا يحكمها عقل ولا منطق.

يظهر تورطه أكثر ويستمر إنكار البشر أكثر فلابد أن هناك شيء ما غير معروف سنكتشفه فيما بعد وتظهر على إثره براءته، تظهر المزيد من الأدلة فيُشوش تفكيرهم أكثر ويقررون استخدام الكارت الأخير وهو تبرير الموقف وتوزيع التهم هنا وهناك، فيحتمل أن الفتاة هي مَن راودته عن نفسها، وربما تلك الأخرى هي مَن أرسلت له صورها عمدًا، وأيضًا محتمل أن تلك السرقة كانت اقتباسًا، والقتل كان تعبيرًا عن الحب، والابتزاز خطأ غير مقصود والاعتداء عشم! .. لا يفلح كل هذا فيتجهون إلى محاولة «اكسترا»  وهي التشويه من جهة والدفاع من جهة أخرى، يبدأون حينها في التنبيش وراء الضحية لإيجاد أي دليل يساعدهم ربما صور خاصة أو محادثات سابقة أو معلومات تصلح لتشويه سمعتها وأخلاقها وعائلتها وغيره وفور وصولهم لأي شيء تبدأ حملة التشويه والتي يقابلها تقديم التبريرات للجاني إما بالتشكيك في قواه العقلية أو تبرير دوافع جريمته أو إضافة إطار رومانسي أو حبكة درامية لتبرير الموقف .. هكذا في كل مرة!

رغم كثرة الحالات مؤخرًا مازال البعض لا يستوعب أن الواقع يختلف كلياً عن إطار تصوراتهم شديدة الضيق، مازالت تحدث الحوادث كل يوم، ومازالوا هم ينكرون ولا يصدقون ويبررون أملاً في الوصول لحقيقة غير الحقيقة ولكنهم في النهاية يفشلون!، مازالوا يتعاطفون مع المجرمين ويبحثون هنا وهناك عما يُثبت براءتهم ربما تعاطفًا معهم، وربمًا خوفًا من تكرار مصيرهم، وربما إثبات إنهم كانوا على صواب أمام أنفسهم، وربما إنكار من جراء صدمة عدم التصديق، وربما خوفاً من مستقبل مظلم يتحول الجميع فيه إلى أشرار!

أخيرًا «نيرة ضحية المنصورة» وغيرها من النساء وقعنّ ضحايا لشخصيات كانوا أبعد ما يكون عن صورة الأشرار التي حُفرت بداخل عقولنا لكنها الحقيقة المرة أن أشرار الرواية لا يظهرون دائما بهيئة الأشرار إنما قد يكونوا أكثر الأشخاص أخلاقًا وعلمًا ومركزًا .. لكن هل هذا يمحي جريمتهم؟، يخفف وقعها؟  يجد تبريرًا لها؟ .. الإجابات كلها لا .. المجرم مجرم ولو كان بهيئة ملاك!، تذكروا دائمًا أن الجريمة تقتل مرة وانكارها أو تبريرها يقتل ألف مرة، مركز الطبيب وتفوق الطالب وأدب المواطن العادي لا ينفي جريمته ولا يهم من الأساس أمام حياة إنسانة دُمرت أو شُوهت أو أنتهت بفعل واحد منهم .. لا مجال لنا سوى التصديق والمساندة والمساعدة لإنقاذ الضحية القادمة التي ربما تصبح أنتِ يومًا ما.

** إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني

أضف تعليق