حتى لا نصبح النسخة الأسوأ من نساء العائلة !

٢٨ يوليو ٢٠٢٢
كتبت سلمي محمود

منذ أن كنت ابنة الثانية عشر من عُمري وانا مُحاطة بنشوة العائلة من حولي في كل مكان، كنت أعيش تجاربهنّ السيئة والسعيدة عن قُرب .. تعلمت أشياء كثيرة في عمر مُبكر لم يكن من المفترض أن أعلم عنها شيئًا، دخلت تجارب أكبر من عمري وعايشت تفاصيل دقيقة عن الزواج والطلاق والأمومة والعمل والحياة بأكملها وأنا تلك التي لم يتعدى عمرها الخامسة عشر بعد!

كانت تجاربهنّ السيئة عقبة تعترض حياتي وتبُث الخوف في وجداني، أما تلك السعيدة فلم تكن تُثيرني بأي شكل، لم تكن كمثل تلك الفاكهة الشهية التي قد تحصل عليها كمكافأة جراء تحُملك تناول الدواء المُر كالعلّقم  .. كانت مثالية بشكل يُثير الغثيان أو روتينية لحد الملل، لم أفهم كيف يُمكن أن يجلب الروتين القاسي السعادة، أليست السعادة والروتين متضادان لا يلتقيان أبدًا! .. تأكدت حينها إنني لا أرغب في تكرار تجربتهنّ مرة أخرى!

كل تجاربهنّ في الحياة كانت مصدر إلهامي في البداية ثم صارت كابوساً يؤرقني طيلة حياتي

فالزواج بالنسبة لهؤلاء النسوة كان يتمحور حول مفهوم «المثالية والعشرة والاستقرار»، مجرد حياة روتينية يغلب عليها الرتابة والملل، يُعاد اليوم ذاته بكل تفاصيله كل يوم .. لا وجود للمسات السعادة ولا توابل الفرحة ولا حتى ترياق الجنون والمغامرة، لم يعترفنّ بالحب ولا ترهات المراهقة تلك، فالحب كما يقولون آخر محطاته الزواج!

أيضاً حُفر في أذهانهنّ منذ الصغر إن المرأة يجب أن تحمل لقب «المثالية والأصالة» بجانب لقب الزوجة، دائمًا جاهزة، دائمًا عطِرة، دائمًا ترتسم ابتسامة على وجهها حتى وإن شاهدت زلزالاً قبل دقائق، دائمًا تُضحي وتتنازل وتتحمل ضيق الحياة والحرمان من السعادة لخدمة الزوج والعائلة … دائمًا مثالية!

رغم ذلك كُن يحاولنّ إقناعي بكل ما أوتين من قوة بالزواج، ليس لجمال التجربة ولا لحميميتها، ولكن لأنه المصير الحتمي الأوحد لكل فتاة على وجه البسيطة!

أما الأمومة من وجهة نظرهنّ فيمكن تلخيصها في  «التضحية وفقدان الذات»، كل أم منهنّ خسرت جزءًا كبيرًا من حياتها فور إنجابها،  شاهدت من حولي أمهات تبدلت أحوالهنّ ١٨٠ درجة، فقدنّ سعادتهنّ، عملهنّ، أجسادهنّ، حريتهنّ وكل شئ.. 

أصبحت حياتهنّ تدور في فلك واحد وهو الأطفال وتربيتهم وإلا ربما يُحاكمنّ بتهمة الإهمال والقسوة، كنت استمع لقصصهنّ عن الأطفال والأوقات الصعبة التي مررنّ بها معهم وهن مُبعثرات، يائسات ومُرهقات، ورغم ذلك كانت ترتسم على وجوههنّ ابتسامة مُتعبة وهن يحاولنّ إقناعي بأن الأمر يستحق كل هذا العناء، بينما أنا في ذلك الوقت كنت أخشى أن أبلل سروالي من الخوف من تكرار نفس التجربة!

حتى نظرتهنّ لانفسهنّ كانت مختلفة، نساء حُقنت دمائهنّ بنبرة الاعتياد منذ نعومة أظافرهنّ، اعتياد التقليل منهنّ باعتبارهنّ إناث، اعتياد حصر أدوارهنّ في المساعدة داخل المنزل وخدمة كل أفراد الأسرة ونسيان أنفسهنّ، اعتياد الصمت وتقبل الإهانة والعنف أحياناً، اعتياد إلقاء اللوم عليهنّ حتى وإن كُن الطرف المظلوم، اعتياد الاختباء لكونهنّ إناث، اعتياد نسيان المشاعر والخيال والحب وحل محّل ذلك العشرة والروتين القاتل والاعتياد!، اعتياد تقديم قربان الطاعة والولاء وعدم إبداء أي رأي حتى لو كان يتعلق بمستقبلهنّ أو زواجهنّ أو حتى أسماء أطفالهن، اعتياد نسيان الحياة وكتابة شهادة وفاتهنّ عندما يشتد عودهنّ، اعتياد حس الدونية والتقليل،  اعتياد المثالية الفارغة والتضحية المبالغ بها، اعتياد الاعتياد!

كان نتاج ذلك توليد فئة كبيرة منهنّ «إناث بصبغة ذكورية» صرنّ نسخة مصغرة من كل ما اعتدّن كرهه مُسبقًا، ورثنّ بناتهنّ القهر والصمت واعتياد كل ما يعرقل مسيرتهنّ الحياتية نحو الأفضل، حاولنّ تمرير أفكارهنّ لكل فتاة وكأنها منهجًا لابد من دراسته للنجاح في اختبار الحياة الأنثوية، أبدينّ نفس الآراء التي لطالما كرهنا سماعها .. دافعنّ عن الجاني ووجهنّ التهم للمجني عليها، ضيعن حقوق الكثيرات مثلهن، صرّن مثلاً أعلى ولكن على نحو سيء..

بسبب ذلك تولد لدي مفهوم مضاد لكل ما اعتدت الخوف منه مُسبقًا وتجاه كل المفاهيم التي تعلمتها من خلالهنّ، لم أرغب في تكرار تجربتهن أو حتى الاقتراب منها، فتلك المنطقة كانت أشبه بمنطقة رمال متحركة ما أن تتحرك قدميك تجاهها ستبتلعك بداخلها ولن تخرج ولو بعد مئة عام، بدأت في حذو موقف مغاير حاد ومتطرف، وجدت أن الحل يكمن في إنهاء التجربة قبل حتى أن تبدأ!

قررت عدم الزواج حتى لا أتحول رفقة الوقت لتلك النسخة خاوية الحياة التي زارتني كثيرًا في كوابيسي الليلية .. لم أرغب أيضاً في أن أصبح أمًا يومًا ما فمَن تلك المجنونة التي تقرر التضحية بحياتها بأكملها في سبيل تربية طفل لست متيمة به من الأساس، كرهت الوظائف الروتينية وأحببت المغامرات حتى وإن دابت كعوب قدمي وانحنى ظهري، كرهت المثالية وأحببت العشوائية فمَن يُريد العيش بجواري عليه تحمل هفواتي و«قلة مثاليتي» وإلا فليرحل في صمت.

تبنيت سياسة الصوت العالي والاعتراض لمجرد الاعتراض، اتبعت مبدأ العدوانية والهروب الحتمي في أقل الظروف ودون الاستماع إلى أية تفاصيل، حاولت تمرير أفكاري ودس السم بالعسل مثلهنّ ونجحت بالفعل حتى وإن لم أكن على اقتناع تام بها … كان كل ما يدور بداخل عقلي حينها أن أحارب في الاتجاه المعاكس حتى لا اتحول مع الوقت إلى نسخة ثانية منهن لكني في النهاية تحولت لنفس النسخة ولكن «في الإتجاه المعاكس». 

كان عقلي أشبه بحصن منيع يمنع مرور أية أفكار مضادة لما كنت أعتقد إنني أؤمن به، كنت انا «هم» ولكن في عالم أخر وبظروف مختلفة .. تمردت كثيرًا حتى نسيت ما هو الوضع الطبيعي من الأساس.

مع الوقت بدأت أفهم أبعاد تلك الحياة الصعبة التي أُجبرت هؤلاء النسوة على العيش في كنفها وسلك طريق لم يعرفنّ غيره طيلة حياتهنّ، نساء لم يملُكن حق تقرير مصائرهن حتى تعايشنّ مع الأمر كأنه أمر واقع لا مفر منه، توغلت الأفكار السوداء داخل عقولهنّ حتى صار اقتلاعها درب من الخيال لذا فهمت إن كل ارائهن وتوجهاتهنّ لم تكن سوى انعكاس للحياة والظروف التي نشأت كل منهن بها، تجرعنّ مرارة الاعتياد حتى صارت وجبة شهية لا يمللنّ أبدًا من التهامها، وأخيرًا مررنّ أفكارهنّ للأخريات من حولهنّ لأنهم لم يعرفنّ غيرها في حياتهنّ حتى صارت كمثل الكتب المقدسة لا يصلح معارضتها أو الخروج عنها ..كُن في فئة المظلوم رغم إنني وضعتهنّ طيلة حياتي في قفص الاتهام!

قررت مواصلة التمرد لكن تلك المرة على نفسي، قدمت الأعذار لهنّ وبدلاً من نظرة الكراهية والبغض تحولت نظراتي إلى العطف والتقبل والفهم، وبدلاً من الحكم المطلق عليهنّ بدأت أسوق لهنّ الأعذار، وبدلاً من افتعال المشاجرات بدأت في النقاش والحوار ومحاولة الوصول إلى حل وسطي أو تقريب وجهات النظر، بدلاً من محاولة الهرب منهن ومن مصائرهنّ قررت المواجهة ومحاولة أخذ الجيد من تجاربهنّ وتكرارها والبعد عن السيء أو محاولة تقويمه  .. لم ينجح الأمر بشكل كامل لكن على الأقل حاولت.

كبرت وتغيرت مفاهيمي عن الزواج والأمومة والحياة بأكملها، فهمت أن العالم أشبه بريموت كونترول به العديد من القنوات علينا اختيار ما يناسبنا منها، فيمكنني تحقيق أحلامي وانا أم ولا يوجد داعي لأن أصبح مثالية طيلة الوقت، وهناك نهاية سعيدة للزواج طالما اخترت الشخص الصحيح، والحب والجنون يُمكن أن يجتمعا رفقة العشرة والمودة، وكوني أنثى لا يمنحني رخصة للتنازل المستمر وتقديم التضحيات المبالغ بها لإرضاء الجميع، فهمت أن هؤلاء النسوة كُن مظلومات وليس ظالمات كما أعتقدت لسنوات .. فقط كبرت وفهمت!

إذا أعجبتك هذه المقالة،  أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني **

أضف تعليق