كتالوج العصر: هل اتبعت الإرشادات اليوم؟

١٩ سبتمبر ٢٠٢٢
كتبت: سلمى محمود

استيقظت ذات يوم مُنهكة ومُتعبة وتبدو آثار الحنق والإرهاق واضحة على وجهي، سألت نفسي حينها سؤالًا لطالما فررت من مُجرد حتى التفكير به وهو «ما جدوى العيش في كنف كتالوج الحياة «الحديثة» تلك، وما الجائزة التي سأحصل عليها من جراء إدعاء أن كل شيء بخير بينما أنا أشتم رائحة احتراق عقلي وجسدي ونفسيتي كل يوم!».

منذ عِدة سنوات وأنا أشعر بأن كاهلي صار مُثقل بأشياء لا أعلم متى وكيف صارت تعتلي قائمة أهدافي اليوم، أشياء لم تزرني في أحلامي يومًا ولم أقضى ولو ثانية واحدة أتخيل نفسي أفعلها، صارت اليوم تشغل حيزًا لا بأس به من تفكيري وتُكدرني إن لم أفعلها «بالشكل المثالي»، كنت أعتقد أنني وحدي أحاول مصارعة تلك الدوامة ومحاولة الهرب منها؛ لكني وجدت بداخل تلك الدوامة الكثير من الوجوه المألوفة التي وضعت قدمها رغبة منها في الاستكشاف أو السخرية، لكن سرعان ما جرفتهم الرياح وعلقت أقدامهم بداخلها أكثر حتى صار الخروج منها مستحيلاً!

في يومنا هذا صار «الترند» هو لغة العصر الحديث وآفة الحياة برُمتها، الجميع أصبح يتسابق على مجاراة الرتم تلبية لاحتياجات الحداثة وما يُمليه عليه المجتمع، اختفت مرادفات الرضا والهدوء والسلام النفسي من قاموس العصر وحلت محلها مرادفات جديدة أعنف وأكثر توصيفًا مثل الضوضاء والجهد الزائد عن الحد وشعور الذنب القاتل..

أصبح هناك كتالوج صارم يجب على الجميع إتباع إرشاداته والسير وفق التعليمات المُرفقة به بدِقة شديدة، تحولت المشاعر من شيء فرداني، حلو، ومختلف يكتسب تميزه من تجارب ومواقف الآخرين ويتحدد وفق خبرات ومعايير الشخص لكل شعور إنساني إلى شيء نمطي بغيض أشبه بنشرات العلاجات الطبية المملوءة بالإرشادات التي على الجميع الالتزام بها لتجنب الأعراض الجانبية وفي حالتنا تلك ستكون الطرد من نعيم السوشيال ميديا، أصبح على الجميع تنحية أهواءه ورغباته الخاصة جانبًا والسير وفق ما وضع في “كتالوج العصر” المزعوم هذا..

التقطت عدوى الحداثة تلك ببطء، كان الأمر أشبه «بدور البرد» الذي تشعر ببعض أعراضه الطفيفة في البداية، تتجاهلها عمدًا، ثم سرعان ما يتخلل المرض كل شبر في جسدك، يُسيطر عليك ويُصيبك بالإنهاك والوهن، كنت اقرأ كل صفحة من صفحات الكتالوج رويدًا رويدًا وابدأ في تنفيذها بحذافيرها، بدأت بصفحة الإنجاز فهي «شهوة العصر الواضحة»، كنت أتابع وأقرأ عنها كل يوم بشغف، فهمت أن الأمر يتطلب مجهود خارق لتحتفظ بموقعك في قائمة الأفضل، مجهود خرافي، كورسات، متابعة الجديد واللهث وراء التعلم، لا وجود للراحة والاسترخاء وإن فعلت سيطاردك «وحش الشعور بالذنب» يلتقط أسفل ثوبك ويهرول وراءك طيلة اليوم دون شفقة أو رحمة، كنت أقضي إجازتي بعد كل أسبوع شاق بحجة تطوير ذاتي، أتابع كورس ما وأقرأ كتاب في صلب تخصصي ثم استمع إلى أحد المتحدثين عن مجال جديد ربما  لأستفيد منه مُستقبلًا، أنهي يومي وأنا أشعر إنني لم أبذل قصارى جهدي بل ويجب بذل المزيد، أنام قليلاً وان أخشى أن يبدأ يومي الجديد لأعيد الكرة مرة أخرى.

اعترتني كثيرًا نوباتٌ هي مزيج مُعقد من خيبة الأمل والإحباط وأحيانًا تصل إلى الشفقة على حالي وأنا أشعر أنني الأخيرة في السبق مهما بذلت من جهد وتصببت من عرق، في اليوم الذي كنت أقرر تقضية اليوم بعيدًا عن تطوير الذات المزعوم هذا، ربما في مشاهدة حلقة من مسلسلي المفضل أو قضاء اليوم رفقة العائلة أو حتى الاسترخاء على الأريكة كنت أشعر وكأن الجميع وصل لنهاية حلقة السبق ومازالت أنا أهرول وحيدة عند بداية المضمار، تخجلني نظراتهم التي شعرت معها كأنها سهامٌ تخترق جسدي، منبوذٌة، مضطّربة، غريبة عن هذا العالم وكأنك فًقدت من مركبة فضائية بعيدة وضللت الطريق إلى الوطن، وكل هذا لأنك فقط تفعل ما يُناسبك، وتخرج قليلاً عن السرب.

بدأت شيئًا فشيئًا أدرك إن الأمر بدأ يصل إلى مراحل معقدة، السبق لا ينتهي وكلما اعتقدت أنك اقتربت للنهاية تجد قدم أحدهم تتخطاك مهرولة لتعود بضع خطوات للخلف، استعدت تفكيري الطبيعي وفكرت في كم الكورسات التي شاهدتها بحجة تطوير نفسي ولا أتذكر كلمة منها اليوم بدلاً من قضاء الوقت صحبة العائلة، كم من الفيديوهات وكتب تطوير الذات التي قضيت أيامًا طويلة رفقتها منعتني من الخروج والاستمتاع، كل هذا كان سيصبح ذو نفع أكثر لو فعلته وفق الطبيعي وما احتاجه بالفعل وليس وفق ما يُمليه علي «الترند» وصفحة تطوير الذات من كتيب العصر الحديث!

الأمر ذاته يمكن تطبيقه على العديد من الأشياء من حولنا، فالجميع صار يُشكل حياته وفق ما تُمليه عليه إرشادات «كتيب العصر الحديث» وبالتالي لا يشعر بالرضا أبدًا مهما حدث، فالسعادة في السفر حتى وإن كانت مُتعتك تتمثل في قضاء اليوم على الأريكة تشاهد نتفليكس، التربية الإيجابية هي الحل حتى وإن كانت تربيتك لأطفالك هي الأنسب لك ولهم، لا تتزوجي سوى بعد سن معين حتى وإن كنت مستعدة لذلك ووجدت الشخص المناسب، ارتدي تلك الملابس بالتنسيق الموحد وإلا فلن تلحقين بركب الموضة أبدًا، زفافك يجب أن يكون صاخب، يحضره الألاف من المدعوين ويقوم بإحيائه عشرات المطربين وترتدين فيه أفخم الثياب وتحيط بك الكاميرات من كل جانب حتى وإن كان زفاف أحلامك بسيط بعيد كُليًا عن البهرجة، الحب يعني الأحاديث البراقة والجمل شديدة التعقيد والمعاني الخفية، إن لم تسمعي يومًا كلمات مثل: السند، الصديقة الوفية، حب العمر وغيرها من الكلمات التي فقدت معناها من شِدة تكرارها فللأسف قصة حبك لا تتماشى مع متطلبات العصر، حتى الزواج أصبح قائم على المنظرة الفارغة ومشاركة كل تفاصيل الحياة على المشاع وقصص الحب الملتهبة المؤلمة العصيبة، حتى المشاعر الرقيقة وجلسات العائلة صارت لقمة سائغة لفيديوهات وقصص السوشيال ميديا، اختيارتك الشخصية، أفلامك المفضلة، وجباتك اليومية، عملك، أسرتك، أطفالك، لحظاتك الحلوة وانتصاراتك، انكساراتك ولحظات حُزنك … كل شيء تم تشكيله ليناسب الأجندة.

أظن أن المعضلة أصبحت مألوفة الآن، فكلنا أصبحنا محاصرين في تلك البقعة السوداء ولا نعرف للخروج منها سبيلًا، فبالتأكيد مررت بهذا كله يومًا ما واضطررت للتضحية براحتك ولحظات الرضا التي تسعى لها لأجل شعور انتصار واهي يختفي بمجرد مرور لحظة أخرى تسمع فيها عن إنجاز جديد أو تشاهد أحدهم يحقق شيئًا ما أو يُقنعك الأخرين بأن طريقة ممارستك لهذا الفعل خطأ أو بحاجة لترتيب، لكن لكل شيء نهاية وهناك طريقًا للعودة حتى وإن بدا هذا مستحيلاً في زمننا، فقط عليك أن تقرر ماذا تريد وأي طريق ستسلك، ما الطريقة التي تناسبك لممارسة حياتك وفقًا لاختيارتك الشخصية وليس ما يُمليه عليك الجميع، تلقي بالكتيب في أقرب سلة مهملات، وتمارس حياتك بالطريقة التي تريدها وتُفضلها أو تستمر في هذا المسلسل الذي لا نهاية له وتتابع عملية تحولك إلى نُسخة واهية، تبتلعك الدوامة السوداء مثل الجميع ويصبح الخروج منها ضرب من ضروب الخيال… الخيار بيدك!

**إذا أعجبتك هذه المقالة، اشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني

أضف تعليق