أمي كانت دادة! | جيهان راضي 

١٣ ديسمبر ٢٠٢٢
جيهان راضي

في أحد أيام نوفمبر الماضي وأثناء حديثي مع إحدى أمهات واحد من طُلابي حول صعوبة بعض المناهج الحديثة؛ أخبرتني الأم أنها قد رأت بعينيها طُلاب قد وصلوا للمرحلة الإعدادية دون أن يكتسبوا مهارتيّ القراءة والكتابة، وأنا كمُعلمة للغة الإنجليزية؛ رأيت بعيني ذلك لا في اللغة الإنجليزية فقط بل حتى في العربية، لذا لم أندهش كثيرًا، لكن استوقفني رد الأم حين أخبرتني أن بعض المعلمين والمعلمات يساعدوا/ن أبناء الدادات اللاتي تعملن في المدارس لاجتياز الامتحانات كمُساعَدة للأم التي أقصى ما تطمح له هو أن تتعلم ابنتها ولو لتحصل على دبلوم إحدى المدارس الفنية، ثم قالت لي: “تعلمين كيف تفكر الدادات”، فوجدتُ نفسي دون تفكير أردُ على الأم: “أمي كانت دادة”. 

الأمر أنني مع بداية كتابتي لسلسلة “خواطر ثائرة”؛ كنتُ قد بدأت أُنقِّب داخلي عما يمكن أن أثور عليه، وبدا الأمر يتعدى كوني أُنثى في مجتمع أبوي يحكمه العرف والتقاليد و سرديات سائدة غير عادلة عن المرأة، فحاولت في آخر ما كتبت “نصف أنثى.. نصف أم” أن أعكس ذلك الصراع في نفس المرأة الأم بين ثنائية الأنوثة والأمومة، ولكنني قد تفاجئت بتعدد الشخصيات في نفس المرأة؛ الأنثى، الأم، والطفلة، وحينما فتشتُ في نفس الطفلة؛ وجدتُ جُرحًا غائرًا كان عليّ أن أفتحه وأُطهره حتى وإن كان الثمن أن أتألم، ولقد صاحب ذلك الأمر استماعي لجلسات تشافي الطفل الداخلي والتي تهدف باختصار للعودة إلى مرحلة الطفولة ومحاولة تسليط الضوء على الذكرى المؤلِمة حينذاك والتي كونت صدمة ما سواء كان الإنسان واعٍ لها أو غير واعٍ، واكتشفت أن كلًا منا به طفل داخلي سواء كنا نساء أو رجال.

وبالعودة للطُفولة، رأيتني في سن السادسة، طفلة لأم تعمل عاملة نظافة في أحد معاهد اللغات، ولأشد ما أذكر من تلك الفترة هو نظرة الاندهاش في عينيّ كل من يعرف أنني ابنة أمي، ربما لشدة عنايتها بمظهري ونظافتي الشخصية، فكنتُ طفلة أنيقة أرتدي فساتين مزركشة قصيرة والصندل في قدمي الصغيرة، وشعري الأسود الناعم ينسدِل على كتفيّ في ضفيرة عقدتها أمي في عناية فائقة، لم يتوقف الأمر على حُسن خُلقي أو مظهري بل كنتُ أحصل دائمًا على درجاتٍ عالية في الكورسات التي كان يُعدها المعهد للصِغار في تعلم الإنجليزية، فاستطعت وقتها أن أُنافِس طلاب مدارس اللغات وأنا فقيرة الحال أرتاد مدارس حكومية، كنت محط إعجاب أستاذتي (مِس داليا)، وطاقم عمل المعهد من سكرتارية لزميلات أمي، حتى المدير كان يُشجعني ويُعجَب بي إذا رآني أجلس على إحدى شاشات الحاسب الآلي أُحاول التعلم بمفردي، لكن الأطفال من سني كان غالبيتهم يمقتونني بشدة، لا أدري لمَ، لكن الأكيد أنني سمعت إحداهن ترفض اللعِب معي فنعتتني (بنت الدادة)، نهرتها أختها وقتها لكن كان قد فات الأوان، حيثُ اخترقَت الكلمة أُذنيّ وكانت خِنجَر حاد يغوصُ بأعماق قلبي، ابتعدت عنهم ولم أُحاول فرض نفسي للعب مع أحد من بعد، حتى رزقني الله بصُحبة آخرى قد أحبتني وارتضت اللعب معي. 

كنتُ أراقب أمي تقف في مطبخ المعهد تُعِد أقداح القهوة وربما هذا سر حبي للقهوة، إذ أذكر رائحة الكافيين تتسلل لنفس طفلة فتشتهي تذوقها، فتنهرني أمي وتمنعني عنها خوفًا عليّ و على قلبي الذي فُطِر على تسارع دقاته، كنتُ أشفِق عليها كثرة الإنهاك بعد يوم عمل شاق وأُشفِق عليها وجهها المتورد بالحمرة حينما تهاجمها حساسية الصدر بلا هوادة لتعرض صدرها للأتربة إثر الكنس والماء عقِب المسح، ورغم مرضها ورغم تحذيرات الأطباء المتكررة بأن تبتعد عن الروائح والأتربة، إلا أنها استكملت مشوارها فقط لكي أتعلم، وكيف تبتعد عن الروائح وعملها يُحتم عليها أن تستخدم مساحيق التنظيف من كلور وفينيك كل يوم، كانت أمي قوية صبورة تكبدت كل العناء حتى أكملتُ أنا سن العاشرة، تركت أمي العمل وتفرغت للبيت ومُساندة أبي في عمله حتى صار تاجرًا وحتى أنعم الله علينا بالبيت والمال الوفير، حتى تزوج أخي وحتى أكملتُ تعليمي كما حلمت أمي يومًا، وحينما ماتت، كان إثر سرطان الرئة، والسبب معروف!

مرت السنون، ولا زالت ذكرى تلك الفترة تعصف بي وتجلب الدموع لمقلتيّ، لكنني بالتفتيش عن الماضي وبمحاولاتي المتكررة لأُصالِح الطفلة داخلي، أدركت سر خوفي الدائم من الشعور بالرفض، أدركت سبب تعلقي الزائد بالأشياء، الأشخاص، والأماكن، أدركت كيف أن هذا الخوف قد دفعني لعلاقات سامة سمحتُ لها بإيذائي يومًا ما، غريب أن تدرك أن المشكلة تكمن في ذلك الخاطر الذي عِشت تنفضه عن رأسك وتهرب منه، الأمر ليس أنني غير فخورة بأمي، بل إنني لم أخجل يومًا أن أذكر عمل أمي إن سألني أحد، لكنني كنت أكره أن أعترف أمام نفسي أنني كنت منبوذة بسبب عملها، لأنني _رغم صِغر سني وقتها_ كنت أعرف أنها تفعل ذلك لي ولأخي، وكنتُ ممتنة صنيعها، لكن يبدو أن الأمر كان فوق قدرات استيعاب طفلة، ولقد عزز الشعور بالرفض داخلي هو إهمال أمي لجوانب آخرى في حياتي ربما لكثرة انشغالها في أعباء المنزل والعمل وربما لجهلها بتلك الأمور لبساطتها وبساطة تعليمها. 

وعلى الرُغم من بساطة أمي، ومن كونها أُمية إلا أنها كانت تُصِر على أن أستكمل تعليمي، وكانت وصيتها لي قبل وفاتها أن تركت لي بعض المال لأشتري به حاسب نقال ليساعدني في استكمال دراساتي العٌليا بالجامعة، ولقد حصلت على درجة الليسانس في الآداب قسم الإنجليزية بعد وفاتها، وبعد عِدة أعوام استطعت الحصول على درجة الماجيستير في الأدب الإنجليزي، ويعلم الله لكم تحملت وبما مررت لكي أُنفِذ وصيتها.

وإجمالًا، أحب أن أوضح السبب وراء كتابة هذا المقال، ليس الأمر أنني أستعرض قصتي بصورة ذاتية وإن كانت كتابتي عنها لأمر يساعد على التشافي من واحدة من صدمات الطفولة، لكن الهدف الحقيقي يكمن في سببين، السبب الأول هو أن أتوجه بقصتي بموضوعية لا لكل أم فقط بل لكل أب أيضًا لأقول لهم: “علينا أن نُصالِح الطفل داخلنا قبل أن نربي أبناءنا، لنتعلم كيف نتجاوز أخطاء أمهاتنا وآباءنا، لنخلق دائرة جديدة من التربية الصحيحة التي تسعى لنشأة طفل صحيح نفسيًا”، لقد قرأت مرة أن علاقة المرأة بأمها تكمن في ثلاث اختيارات؛ إما أن تُقلد البنت أمها حينما تكبر بشكل تام، وإما أن تختار نهج مختلف تمامًا يعكس نهج أمها، وإما أن تختار اختيارًا واعيًا تستطيع فيه أن تكون متوازنة تتعلم من أمها فتحذو الإيجابيات وتتجنب السلبيات، ولقد حاولت ولا زلت أتعلم كيف أكون متوازنة.

السبب الثاني؛ هو رغبتي في أن أُعبِّر عن امتناني لأمي _محاسن_ لأنها تكبدت الكثير من العناء ولأُخبرها أنني قد حاولت أن أُحقِق لها ما رغبت به لي، ما حلِمَت لي أن أكونه، ولأُطمئِنها أن الله قد وهبني أمًا ثانية؛ أستاذتي ومشرفتي الغالية_د. إيمان_ وأنني حتى وإن هزمتني الظروف ولم أستطع أن أستكمل الدكتوراه لازالت أستاذتي تؤمِن بي وآخر كلماتها لي: “بحبك يا جيجي الذكية الجميلة “، فلروحك السلام يا أمي، ولقلبك كامل المودة والامتنان يا أستاذتي، ولكِ أيتها المرأة المِعطاءة كل الحب والاحترام أينما كنتِ ومهما فعلتِ. 

إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني **


أضف تعليق