مغامرات آنسة في العيادة النسائية

٦ فبراير ٢٠٢٣
سلمي محمود

ما هو المشهد الذي يقفز أمام عينيك عندما تسمع كلمة “عيادة نسائية”؟ دعني أخبرك فالأمر مُتوقع للغاية، سيدة حامل يظهر على وجهها جليًا مشاعر الفرح ولهفة الانتظار تجلس بجوار والدتها أو ربما زوجها “إن كانت محظوظة قليلاً” لمتابعة حملها وأخر تطوراته، سيدة أخرى يبدو عليها التوتر وتمليء شرور الغضب كل ثنايا وجهها تجلس بجوار عجوز كبيرة في السن (نعم هي الحما في تلك الحالة) حيث يمكنك ملاحظة نظرات الوعيد والترهيب وكأنها في صِدد إثبات شيء ما، سيدة أخرى تجلس وحيدة تهز قدميها في ضجر وملل وهي تنتظر دورها من أجل المتابعة النسائية الشهرية، أحاديث جانبية، أصوات تعلو وتنخفض تباعًا بسبب بعض الخلافات بسبب أختلاف الأدوار أو تأخر الطبيب أو عدم وجود مقاعد كافية للانتظار .. لكنها تنخفض رويدًا رويدًا حتى يسود الصمت أرجاء المكان في لحظة واحدة وهي “دخول آنسة إلى العيادة الطبية النسائية”.

مشهد غريب توقفت الحياة بداخل العيادة النسائية على إثره، صمتت الأفواه وتحولت نظرات الخوف والامتعاض إلى دهشة وتعجب، تركت السيدة أذن أبنتها بعد أن التهمتها التهامًا لتستمتع لأصوات ‘الأنسة’ الجديدة بل وفركتها فركًا لتتأكد مما سمعته أمامها، أما الأخرى فبعد أن وجهت سهام نظراتها إلى زوجة ابنها استعلاءًا وتجهمًا قامت بتوجيهها إلى إتجاه أخر لتتأكد من ‘الانسة’ الماثلة أمامها كأنها وحشًا خارقًا فقد بوصلة طريقه نحو كوكب الأرض، أو كائنًا خياليًا لم نسمع عنه سوى في الحواديت الدرامية القديمة.

أعتقد رغم أن تفاصيل المشهد تبدو مُبالغة كثيرًا إلا أن هذا بالفعل ما يحدث بل وربما بتفاصيل دقيقة أكثر درامًا وسوءًا، فإن كنتِ أنسة ولكِ تجربة مُسبقة في زيارة العيادات النسائية فحتمًا تعرضت لمثل هذا المشهد، بدءًا من تحول كافة أنظار الحاضرين تجاهك فور علمهم بعزوبيتك ثم همزاتهم ولمزاتهم عنك وكإنك مذنبة أو متهمة في إحدى جرائم الشرف، وحتى أسئلة طاقم الاستقبال بل والطاقم الطبي نفسه والتي تحمل معانٍ كثيرة مُبطنة.

منذ فترة قرآت مشكلة لإحدى الفتيات التي شعرت ببعض التغيرات الهرمونية الجديدة التي طرأت على جسدها من بينها تأخر الدورة الشهرية وعدم انتظامها وتساقط الشعر بالإضافة إلى بعض الألام في الحوض لذا بعد مصارحة والدتها على مضض بسبب الحرج من المشكلة مع الخوف والارتباك الذين سيطروا عليها بمجرد التفكير في استشارة “طبيب النسا”، قررن سويًا الذهاب إلى العيادة النسائية، ورغم أن تلك المشكلة المرضية شائعة وتحدث لفئة كبيرة من الفتيات صغيرات السن وبالرغم من وجود والدتها برفقتها إلا إن ذلك لم يشفع لها حتى تسلم من نظراتهن الحارقة ومشاعر الارتياب التي بدت واضحة على وجوه الجميع فور سماعهن كونها “أنسة”، وما زاد الطين بله هو خوف والدتها وشعورها بالإحراج من إخبار الأهل والأصدقاء لكونها خضعت لعملية إزالة كيس على المبيض واستبدال ذلك بخضوعها لعملية لإزالة الزائدة الدودية “علشان متوقفش حالها” كما ورد على لسانها.

أما الأخرى فبسبب إصابتها ببعض الالتهابات التناسلية قررت استشارة الطبيب رفقة صديقتها بسبب شعورها بالإحراج من والدتها وجاء قرارها هذا بعد عناء بسبب عدم ارتياحها لفحص النساء برمته، ما حدث أن صدمتها كانت في محلها بداية من نظرات الاستهجان والاتهامات الباطلة التي رافقتها من الحاضرين فور أن وطئت قدماها العيادة والأحاديث الجانبية التي رغم أنها لم تسمع منها شيء إلا إنها علمت محتواها من قبل حتى أن تتفوه ألسنتهم بشيء، وحتى الفحص ذاته والذي رغم كونه تم على يد طبيبة إلا أن التجربة كانت اسوأ مما توقعت، فالطبيبة جعلتها تشعر بعدم الارتياح منذ اللحظة الأولى، بداية من نظرات الشك والريبة التي اعتلت وجهها، ثم مئات الأسئلة والتلمحيات التي توحي بالشك في سلوكها وتستعجب كونها في هذا المكان رفقة صديقتها وليس أهلها وأخيرًا تأكيد الطبيبة لها باحضار والدتها في المرة القادمة “علشان هي هتفهم أكتر منها”.

المشكلة أن الأمر لا يتوقف عند مجرد نظرات الاحتقار والريبة والتعجب من وجود آنسة في العيادة النسائية وكأنها حكرًا على المتزوجات وحدهن أما الأنسات فعليهن فقط التألم في صمت أو إخفاء معاناتهن عن الجميع، لكن الأمر أحيانًا يأخد مجرى أكثر قسوة وسوءًا، فهناك بعض الأطباء يرفضن إجراء أية عمليات جراحية خوفًا من أن تفقد البنت عُذريتها ويُفضلن الطرق الأخرى في العلاج حتى وإن كانت ستتطلب وقتًا أطول للعلاج أو نتيجتها لن تكون مُرضية على أية حال، أما الأهل ففور سماعهم بأن هناك  شيء ما ربما سيعبث بعذرية ابنتهن  فسرعان ما يتجنبون حتى الحديث عن الأمر أو مناقشته ولعل أبرز مثال هي قصة الفتاة التي كانت علامات البلوغ تظهر جليًا عليها لكنها لم تستقبل دورتها الشهرية بعد، وبعد فحصها تبين معاناتها من وجود تورم أسفل البطن وتجمع دموي كبير في الرحم بسبب إنغلاق غشاء البكارة تمامًا وكان لابد من إجرائها جراحة تستوجب إحداث ثقب صغير في الغشاء حتى تتمكن الدماء المتراكمة من النزول، اعترض الأهل خوفًا على سمعة الفتاة “فكيف يُمكن أن يصدق البعض أن الفتاة توفيت من جراء جراحة وليس لسوء سُمعتها أو ارتكابها لجُرم فاضح؟” حتى أصيبت الفتاة بتسمم دموي ولقت حتفها بعد ذلك..

كثير من الفتيات صرن اليوم يتجنبن الذهاب إلى العيادات النسائية خوفًا من تبعاتها نفسيًا وجسديًا ومجتمعيًا، ففي وقت أصبحت الأمراض النسائية تُسيطر على نسبة كبيرة من الفتيات ما بين أمراض الرحم والتكيسات والتغييرات الهرمونية ومشاكل الدورة الشهرية وغيرها، أصبح هم المرض يأتي رفقته همًا إضافيًا وهي المشاكسات والهمزات واللمزات والكلمات الجارحة التي صارت كمثل العلقم تلتهم قلوبهم وتُثير حنقهم، فبدلاً من الطمأنينة أو على الأقل الشعور بالراحة أثناء ممارستهن لفعل طبيعي تحاصرهن الاتهامات وتابوهات المجتمع الزائفة ممن يُفترض أن يُخففن آلامهن أو على الأقل يُدركن حجم معاناتهن لكونهن أما متخصصين أو نساء مثلهن، الأمر الذي يدفع بهن إلى البحث عن بدائل علاجية على يد غير المتخصصين وهو ما قد يعرضهن للمخاطر الصحية فيما بعد أو تجاهل المشكلة بُرمتها وهو ما قد يدفع بحالتهن الصحية إلى التدهور أكثر وأكثر..

أخيرًا همسة في أذن الجميع، العيادات النسائية ليست حكرًا على فئة بعينها ولا علاقة بين فقدان الشرف أو العفة  – أو أن الفتاة أخطأت في حق نفسها وقررت تصحيح خطئها أو على الأقل تدراكه، –  بل بالأمراض النسائية التي تصيب في الغالب كل أنثى مهما كان توصيفها أنسة أو سيدة، الأمراض التي أصبحت جزءًا لا يتجزء من حياة الكثيرات في يومنا هذا، يتعايشن معها قهرًا ويحاولن بكل ما أوتين من قوة أن يجدن لها العلاج المناسب أو على الأقل يخففن أعراضها لعل الحياة تطيب لهن يومًا.

 وبدلاً من إلقاء الاتهامات الباطلة القاسية و النظرات الحارقة والهمزات واللمزات من الجميع بدءًا من رواد العيادات النسائية والطاقم الإداري وحتى الطاقم الطبي المتخصص بطريقة يغلب عليها النمطية المزعجة و التابوهات المجتمعية التي عفى عليها الزمن وولى، أو الزج بهن لإحضار ذويهن وكأنهن ناقصات عقل، أو عليهن إتباع خطوات الأهل والأصدقاء حتى يحصلن على زمام العفة والشرف وكأن خضوعهن للكشف وطلب العلاج وحدهن يُثير الشكوك ناحيتهن؛ علينا الاستماع لهن وتشجيعهم لأن بحذو تلك الخطوة وارتياد العيادات النسائية رفقًا بهن وتجنبًا لحدوث ما لا تحمد عقباه إن قررن عدم استكمال العلاج أو اتباع طرق خاطئة لتخفيف آلامهن، أما الأهل فعليهم الخروج من جلد مَن سبقوهم وتشجيع العلاج مهما كان أو كيف سيكون، فالعمليات الجراحية لن تنقص من شرف بناتهن شيئًا ولن تلعق عفتهن بل ستطيب جروحهن وتُشفي آلامهن.

إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني **

أضف تعليق