استقالة عالمة ذرة| تخلي المرأة عن عملها، اختيار حر أم  قرار جبري؟

١٥ فبراير ٢٠٢٣
كتبت رضوي حسني

بمجرد مشاهدتك لأحداث فيلم استقالة عالمة ذرة تدرك على الفور أن تخلي المرأة عن عملها، وتنازلها عن تحقيق أحلامها ليس – كما نتصور – إذعانًا لرغبة الزوج وحده، بل قد يمتد السبب إلى ما هو خارج دائرة الزوجين، أي المجتمع المحيط بهما.

يتناول فيلم استقالة عالمة ذرة خلال أحداثه قضية الصراع الذي تعيشه الأم العاملة بين أداء واجبها الوظيفي الذي تخدم من خلاله المجتمع، وبين مسؤوليتها تجاه أبنائها. ورغم نجاح العديد من السيدات في تخطي هذا الصراع بصعوبة؛ لا تزال هذه المشكلة تؤرق أخريات، بل وتجبرهن على التخلي عن وظيفتهن كحال د.عنايات بطلة قصة الفيلم، والتي تعود بصحبة زوجها د.نبيل من الولايات المتحدة الأمريكية بعد حصولهما على درجة الدكتوراه في العلوم بامتياز باختلاف تخصص كل منهما.

ومنذ عودتهما إلى أراضي الوطن، وهما متمسكان بشغفهما، وحبهما للبحث العلمي، ورغبتهما في خدمة المجتمع؛ رغم ملاقاتهما للكثير من المتاعب خلال أحداث الفيلم، وما به من مواقف يومية كصعوبة المواصلات، وانقطاع المياه، وعدم تقدير قيمة الوقت، وضعف المرتبات مقارنة بأجور أصحاب الحرف البسيطة، واستغلال حارس العقار وعاملات المنزل لهما، ومعاملة بعض الجيران الفظة؛ ومع ذلك فالأمر يبدو على ما يرام، ولا يُنقص ذلك من عزيمتهما شيئا. فبرغم حالة الفوضى داخل المجتمع التي تعكسها المواقف اليومية إلا أن د.عنايات وزوجها د.نبيل يعيشان حالة من الهدوء، والحب. فأساس زواجهما قائم على الصداقة، والتفاهم، والشراكة داخل البيت، وخارجه. فنراهما يمثلان نموذج الزوجين السعيدين على النحو الغربي البعيد تمام البعد عن نموذج سي السيد وأمينة المعتاد مشاهدته في المجتمع المصري.

وهكذا يستمر الحال بهما حتي يحدث الصراع المتوقع بحمل الدكتورة عنايات في طفلها الأول، ورغبتها هي وزوجها في البحث عن عاملة منزل ومربية في الوقت ذاته تقوم على شئون البيت، وترعى طفلهما عقب ولادته مباشرة حتى يتسنى لعنايات ونبيل الاهتمام بأبحاثهما العلمية، والوصول من خلالها إلى نتائج سليمة يمكنها أن تخدم الدولة، وترفع من شأنها على المستويات العلمية، والطبية، والاقتصادية.

ولكن بمجرد أن تتسلم العاملة الأولى زينب وظيفتها داخل بيت د.عنايات، لا تمكث سوى أيام قبل أن تعود إلى زوجها مرة أخرى عقب انفصالها عنه، وترفض الاستمرار في العمل بناء على رغبته، ولمّا تحاول عنايات استمالتها وإقناعها بالعمل لديها حيث أن هناك الكثير من السيدات متزوجات وعاملات في الوقت ذاته كحال عنايات نفسها، تتمسك زينب بالرفض معللة بأن زوجها لا يقبل لها العمل خارج البيت على عكس د.نبيل الذي يتهاون مع مسألة عمل زوجته؛ وكأن – من وجهة نظر زينب – موافقة الرجل على عمل زوجته بها شئ من قلة الكرامة، وعدم تقدير الزوجة، فالزوج المحب لزوجته هو من يعاملها كالسفيرة عزيزة، مملكتها البيت، وليس من شأنها أن تخرج منه للعمل، وكلما زاد تحكم الرجل في زوجته، كلما أثبت حبه لها. 

وعندما يعاتبها د.نبيل على أنها لم تخبرهما مسبقا بهذا الأمر، وهو ما يتعارض مع القانون، تنفعل زينب عليهما وتسألهما ما دور القانون في مسألتها وهي التي لم تسرق أو تبدد شيئا داخل منزلهما؟! وهنا تظهر مرة أخرى عقلية زينب الفقيرة، وعدم احترامها للوعد الذي قطعته على نفسها أمام عنايات ونبيل عند طلبها للعمل لديهما حيث أخبرتهما بأنها ليست متزوجة ولا ترغب في العودة إلى طليقها، وستستمر معهما بشكل دائم. وبعدم احترام زينب لوعدها يقع على عنايات ونبيل عناء البحث عن عاملة منزل جديدة، وصعوبة في تنظيم مهام يومهما خصوصا مع مرور أشهر الحمل الأولى. ويستمر الوضع إلى أن تأتي عصمت للعمل لديهما قبل أن يكتشفا أنها لصة حيث تتعاون مع حبيبها على سرقة أغراض عنايات ونبيل من المنزل مستغلة غيابهما عنه أثناء ولادة طفلهما.

ومرة أخرى تعود عنايات وزوجها نبيل إلى حالة من عدم الاستقرار والتشتت بين رعاية الطفل ومتابعة العمل؛ ومع ذلك يقع العبء الأكبر على عنايات لأنها ترى أن رعاية الطفل مسؤوليتها وحدها. وتطلب من ابنة خالتها سميرة الطالبة الجامعية أن تمكث في منزلها لرعاية طفلها خلال فترة دوامها بالعمل؛ لكن سميرة لا تستطيع أن تقدم هذه المساعدة بشكل دائم لظروف محاضراتها اليومية.

حتى يقرر د. نبيل إقناع زوجته بأخذ الطفل إلى احدى الحضانات المناسبة لعمره، والقريبة في الوقت ذاته من بيتهما؛ رغم أنها تبعد نحو ٣ محطات بالأتوبيس! وبصعوبة تقتنع د. عنايات وتذهب معه لمعاينة وضع الحضانة والاطمئنان على ابنها هناك قبل تركه فيها؛ ورغم الفوضى العارمة التي تملأ الحضانة تضطر إلى تركه بعد إقناع المشرفة لها، وإخبارها بأن الحضانة واحدة من أفضل الحضانات على الإطلاق التي تقدم الرعاية الكاملة لمن هم في مثل عمر ابنها.

ولكن لم يكتب لعنايات ونبيل التمتع بحالة مستمرة من الهدوء والاستقرار حيث يتعرض الرضيع في أول يوم له بالحضانة لوعكة صحية نتيجة إهماله، وعدم إسعافه، وعندما تذهب أمه د. عنايات لإحضاره تكتشف المسألة، وتستنكر الوضع إلا أنها لا تلقى حتى اعتذارا من مشرفة الحضانة، فتقرر عدم إلحاق ابنها بأي حضانة مرة أخرى.

وهنا تقرر الاستعانة بمربية أطفال لا عاملة منزل، فتحضر سعدية أو ناني – كما تحب أن يُطلق عليها – وهي مربية أطفال ذات مؤهل عالي، وخبرة واسعة بالمجال. ورغم ارتفاع مرتبها إلا أنها جديرة به حتى أن د. عنايات نفسها تتعلم منها الكثير عن تربية الأطفال؛ ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن حيث تطمح سعدية أو ناني بالسفر إلى احدى دول الخليج للعمل هناك. فتبحث عن عقد عمل مناسب، وبمجرد أن تحصل عليه تقرر ترك الوظيفة لدى عائلة د. عنايات ود.نبيل؛ ليعودا بذلك إلى نقطة الصفر من جديد دون أي مقدمات. كما تتوتر بينهما العلاقة، وتظهر في صورة أقل تفاهمًا عما كانت عليه في البداية.

وفي آخر محاولة منها قبل الاستسلام تماما تبحث عنايات عن عاملة منزل، فتتقدم للعمل فتاة لا تحمل عيوب العاملات الأخريات؛ لكنها مهملة تلهو بين أرجاء البيت بحثًا عن التسلية، وتقضي وقت العمل في التحدث عبر الهاتف أو مشاهدة التليفزيون بدلًا من الاهتمام بالرضيع وتدبير شئونه، والقيام بأعمال المنزل الأخرى حتى أن الأمر يصل بها إلى مغازلة د. نبيل؛ فتقرر د. عنايات أخيرا أن تطردها من المنزل.

وبالوصول إلى هذه المرحلة ترفع د.عنايات الراية البيضاء وتعلن استسلامها أمام المجتمع، وتقرر أن تتخلى عن وظيفتها كباحثة، وعالمة في أبحاث الذرة بالمعهد القومي للبحوث، وأن تتفرغ لعملها كأم، فعلى حد قولها لا يستطيع المجتمع أن يطالبها بالعمل إلا إذا طمأنها على حياة ابنها وراحته، وأنها تستطيع أن تستقيل من واجبها كعالمة ذرة؛ ولكن لا تستطيع أن تستقيل من واجبها كأم. ورغم محاولة د. نبيل في إثنائها عن موقفها، وطلبه منها أن تفكر في قرارها قبل العزم على تنفيذه، ترفض، وتخبره أنه قرارها الأخير.

وخلال ذلك الصراع نلاحظ تحول د. عنايات من الشخصية الجادة العملية إلى أقصى درجة إلى شخصية أخرى متوترة وقلقة بشأن وضع ابنها للحد الذي يفقدها التركيز على أداء عملها بشكل جيد. فبعدما كانت تنهر الباحثات الأخريات على تأخرهن، وعدم تقديرهن قيمة الوقت، ولا تراعي ظروفهن الاجتماعية التي تؤثر على أدائهن الوظيفي، يصل بها الأمر إلى أن تشارك معهن أحاديثها عن ظروفها الشاقة، ومعاناتها اليومية في رعاية طفلها، وذلك لم يكن إلا بمعايشتها لنفس أوضاعهن. 

والفيلم هنا يناقش أهمية عمل المرأة كعضو منتج داخل المجتمع بشأنه أن يحدث تغييرات جذرية به، كحال د. عنايات التي كانت تعمل قبل تقديم استقالتها على اكتشاف علاج لمرض تسوس العظام، و إحساسها بآلام المريض هو ما كان يدفعها للعمل لساعات طويلة داخل معملها على أمل أن تكتشف العلاج في أقرب وقت ممكن لدرجة أنها رفضت أن تأخذ إجازة وضع؛ ولكن مسألة ابنها باعدت بينها وبين أملها في مساعدة المرضى، وعلاجهم من مرض مستعصي. ربما يستأنف زملائها العمل على البحث ذاته، وربما لا، وفي تلك الحالة يكون مجتمع كامل حُرم من إنجاز علمي كبير كان بشأنه أن يغير حياة الملايين حول العالم.

د. عنايات تركت مشكلتها معلقة في يد القائمين على قانون الأحوال الشخصية؛ لعلهم يجدوا حلولا مناسبة لها ولمن هن في مثل حالتها كما فعلوا مع المشكلات الاجتماعية الأخرى التي يناقشها القانون، لكن يبقى السؤال هنا، كم د. عنايات أخرى فقدت وظيفتها، وتخلت عن حلمها في اكتشاف علاج جديد، أو بناء معمار مميز، أو تخريج نشء جيد، أو المرافعة في قضية صعبة، أو غيرها من الوظائف الأخرى داخل المجتمع؛ ولكن حرمها من ذلك توفير أبسط الخدمات لها كأم عاملة، وبناء المرافق المناسبة لرعاية أطفالها بالقرب من أماكن العمل المختلفة حتى يتسنى لها متابعة عملها والاطمئنان على وضع ابنها في الوقت نفسه؟!

فيلم استقالة عالمة ذرة هو فيلم تليفزيوني عن قصة إحسان عبد القدوس، وبطولة: سهير البابلي، أبو بكر عزت، حسن مصطفى، سناء يونس، إسعاد يونس، ميمي جمال وإخراج: إبراهيم الشقنقيري، وإنتاج ١٩٨٠.

إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني **

أضف تعليق