أمي كانت دادة :الجزء 2| كتبت جيهان راضي

٣ سبتمبر ٢٠٢٣
جيهان راضي

حينما نكتب؛ تذهب بنا الكتابة لدروب لم نكن نتوقع أن نمضي إليها، ربما يبدو الأمر غريبًا على القاريء لكن صدقني؛ أكاد أجزم أن كل كاتب يسحره النص فيجعله يسلك طريقًا لم يتصوره وكأن النص ندّاهة تناديه فيمشي إليهِ مسحورًا. 

كنتُ قد نشرت مقالي الأول «أمي كانت دادة» منذ ما يقرب الثمانية أشهر، جاءت كتابة هذا المقال إثر رغبة شخصية في البوح عن تجربة ذاتية في الطفولة كانت سببًا في معاناة عند الكِبر، أوضحت حينها أن أمي كانت تعمل عاملة نظافة في أحد معاهد اللغات وكانت تصحبني معها منذ الصغر لأحضر كورسات اللغة الإنجليزية، فكان أقراني عندئذٍ يرفضون اللعب معي، بسبب عمل أمي الذي كانوا يرونه مُهين وكنت أراه شريف، حتى أن إحداهن ذات يوم قالتها في وجهي دون خجل: “أنتِ بنت الدادة” رافضة بإصرار ألا أشاركها أحد كتب القراءة، كتبت عن تلك الفترة إثر رغبة قوية في الكشف عن جُرحٍ دفين، والذي كان أحد أسباب شعور لازمني طوال حياتي بالرفض والخوف من الهجر، فدفعني هذا الخوف لأن أمضي في علاقات لا تشبهني ولا تشبه أحلامي أو مبادئي، لطالما آمنت بقدرة الكتابة على شِفاء الذات وكان هذا هدفي من تفريغ أفكاري على الورق، لأضعها أمامي وأتمكن من استيعابها، لكن هل كنت أتصور أن يدفعني القدر لأن أعمل في نفس المعهد الذي عملت به أمي والذي لطالما نُبِذت به؟ 

لم أسع للعمل بهذا المعهد بل جاء عملي هناك صدفةَ عقب ترشيح أحد الأصقاء لي لأعمل هناك حينما سألته إدارة المكان عن مُحاضِر لغة إنجليزية، رفضت الفكرة في البداية لأنني شعرت بصعوبة العمل في المكان الذي لطالما رُفضِت فيه، لكن صوت داخلي سألني: “لِمَ لا؟”، وفكرت لوهلة: “ماذا لو تعافيت في نفس البيئة التي تأذيت بها؟”، لذا قررت أن أخوض التجربة حتى وإن كان الثمن هو أن أنبِش في ماضي لطالما أنكرته، ابتسمتُ وأنا أصعد الدرج الذي اعتدت أن ألعب عليه منذ ما يزيد على العشرين عامًا، فكانت ماما توبخني حينها وتنظر لي شذرًا حتى لا أتسبب لها في مشاكل بالعمل، خفق قلبي بشدة حينما رأيت ابن مدير ماما السابق والذي قادنا القدر لأن يصير مديرًا لي، وكأن الزمن يدور دورته، مرّ اللقاء الأول ولم أرغب أن أخبر أحدًا أنني ابنة أمي إلا بعد أن أتأكد من أنني قد نجحت وتم قبولي للعمل، وعليها أخبرت مُدرائي أنني ابنة أمي، لم أتوقع كم الحب والحفاوة التي رأيتها بعيون الناس، غمرني شعور بالفخر والامتنان لله لأنني اتخذت قرارًا اتضح لي أنه صائبًا، في أول يوم عمل لي وقفت أمام طُلابي مرتبكة قليلًا، هُنا كنت أحضر دروس اللغة الإنجليزية منذ سنين، هُنا كان أقراني يرفضونني، هنا واجهت العالم وقُبحه لأول مرة، هُنا أنا أُحاضِر الآن، تبتسم لي رضا العاملة وتقول لي: “إدخُلي القاعة من هنا يا مِس”، وأنا أتخبط في البدء ثم أمضي أشرح بلكنة أجنبية لطلابي وطالباتي، الإعجاب في عيونهم، والخوف يتلاشى من قلبي لحظة بعد آخرى، ينتهي اليوم الأول وتمضي أيام أُخَر، ويُسنَد لي أعمال آخرى، ربما لأنني مُعلمة مجتهدة، لا أدري، لكنني متأكدة من أمرِ واحد: “لا بُد أنني أبلي حسنًا”.

ذات يوم أبلغت رضا العاملة عن ماما فوجدتها تعرفها رغم أنها لم تقابلها قط، لكنها بالطبع كانت تسمع عنها، ابتسمت لي رضا وكانت فخورة بي، أخبرتها عن رغبتي في مقابلة مديرة أمي السابقة، فأخبرتني عن مواعيدها، وحينما ذهبت لأقابلها ابتسمت لي بود، لم تتعرف عليّ بالطبع، فآخر لقاءِ لنا كنت لا زلت في العاشرة، وحينما أخبرتها عن ماما تطلعت لي بكل حب وأخبرتني أن المعهد مكاني، وأوصتني أن ألجأ إليها إن أصابني مكروه، وقالت لي تطمئنني: “وراكِ ضهر هنا”، ابتسمت لها بامتنان وشعرت أن روح ماما تقف في أحد أركان الغرفة تبتسم لي بفخر، لا أظن أنني شعرت بالفخر يومًا مثل هذا اليوم، سيرة ماما الطيبة وصلابتها لازالت تلاحقني حتى بعد موتها. 

الآن مضى أكثر من ثلاثة أشهر منذ أول يوم عمل لي هناك، في كل مرة ألتقي بالناس هُناك؛ أرى في عيونهم الحب والفخر والحفاوة، أبتسم مرة وأمزح مرات مع زميلاتي أو طلابي، وأحيانًا آخرى أجلس بجوار رضا في المطبخ أحكي لها عن أمي وعن غضبها أحد الأيام حينما نعتها مستر ديفيد باللغة الإنجليزية: “قِمامة” ورغم بساطة ماما التعليمية إلا أنها أدركت معنى الكلمة بالعربية فاستشاطت غضبته ونعتته بنفس اللفظ وأكثر، أتبادل أنا ورضا الضحك لذكاء ماما وخِفة دمها، وأتناول قدح القهوة برفقتها مثلما كنت أرافق ماما في المطبخ وأنا طفلة، وأحيانًا أجلس وحدي أتفكر في هدوء هل كان قراري صائبًا؟ هل أنا أتعافى حقًا في بيئة تأذيت فيها يومًا ما؟  أظن أن الإجابة نعم، أنا أشعر أنني أفضل من قبل، ربما أنا في نفس المكان، لكن تغير كل شيء؛ الزمن، الناس، الظروف حتى أنا تغيرت، على الأقل أدركت قيمة الهجر والنبذ الذين تعرفت عليهم منذ الصغر، واستوعبت الحكمة التي أراد الله لي أن أستوعبها، هل يمكن أن أُعِد هذه بمثابة نهاية سعيدة لقصتي مع صدمات الطفولة بينما يلوح ظل أمي في السماء سعيدًا من أجلي؟ لا أدري، أنا أعرف أمرًا واحدًا وهو أنني أتجه في طريقي، الطريق الذي يُشبهني، فالحمد لله. 

إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني **

أضف تعليق