١٢ نوفمبر ٢٠٢٥
ماهيتاب عبد السلام

كل يوم تداهمنا الأخبار عن ضحية جديدة للعنف الإلكتروني. نساء كثيرات يدفعن ثمن كلمة، أو صورة، أو منشور، تحوّل إلى سلاحٍ يصيب دون أن يترك ندوب في الجسد ولكن يترك ندوب في النفس صعب ان يشفي من أثرها، لا يقتصر الأمر على التنمّر أو التهديد، بل يمتدّ إلى انتهاك الخصوصية، والتشهير، والابتزاز، والمراقبة الخفية. كل ذلك يُصنع من وراء شاشاتٍ مضيئة، لكنها تُترك ظلامًا حقيقيًا في النفس. العنف الإلكتروني ليس قضية رقمية فحسب، بل تجربة إنسانية مؤلمة تعيشها نساء وفتيات في مختلف أنحاء العالم ، يسرق من المرأة إحساسها بالأمان ، ويجعلها سجينة في مساحةٍ افتراضية يصعب الفرار منها
المرأة التي تتعرض للعنف الإلكتروني لا تتأذى من الموقف في لحظته فقط، بل تعيش توترًا مستمرًا وخوفًا من التكرار. وتهديد مساحتها الشخصية التي كانت تظنها آمنة. هذه المشاعر لا تزول بسهولة، بل تترك أثرًا طويل المدى على الثقة بالنفس والإحساس بالأمان. وتشير دراسات نفسية حديثة إلى أن التعرض المتكرر للعنف الإلكتروني قد يؤدي إلى أعراض تشبه اضطراب ما بعد الصدمة، حيث تعيش الضحية في حالة من القلق المستمر، واليقظة المفرطة، وصعوبة النوم، وتعيد استرجاع المواقف المؤذية حتى بعد مرور وقتٍ طويل عليها. وقد تشعر بانفصالٍ عن ذاتها، أو فقدانٍ للإحساس بالواقع، وكأن حياتها توقفت عند لحظة الأذى الأولى. وفي غياب الدعم النفسي والاجتماعي، قد تتفاقم هذه الحالة لتتحول إلى اكتئابٍ حاد أو انسحابٍ من الحياة العامة، في محاولة يائسة لاستعادة الأمان المفقود.
لقد جعل العالم الافتراضي الناس أكثر جرأة في النقد وأكثر قسوة في التعبير. صار الهجوم والتهكم أسهل من الفهم والتعاطف. اختفى الحياء خلف الشاشات، حتى أصبح البعض يظن أن الكلمة لا تُحاسَب لأنها تُقال من وراء شاشة، غير مدركين أن الجرح النفسي لا يُمحى بمجرد حذف منشور.
وهناك أمثلة عديدة على العنف الالكتروني ضد النساء:تقول إحدى النساء إنها تعرضت للابتزاز من شخص كان قريبًا منها، استغل صورًا ومحادثات شخصية وهددها بنشرها إن لم تنفّذ ما يريده. عاشت أيامًا من الخوف والارتباك، لا تعرف إلى من تلجأ، فاختارت الصمت على أن تُفتَضح. وأخرى حوّل أحد زملائها صداقتهما إلى تهديدٍ، مستخدمًا محادثاتهما القديمة لإيذائها معنويًا، ولم يكن الألم في التهديد ذاته، بل في إحساسها بأن الأمان انكسر إلى الأبد. وثالثة تعرضت لتشهيرٍ بعد اختراق حسابها ونشر صورها بطريقة مهينة، ففقدت عملها واضطرت إلى الانسحاب من محيطها الاجتماعي، خوفًا من نظرات الآخرين. هذه القصص، وإن اختلفت تفاصيلها، إلا أنها تتفق في جوهرها على أن المرأة التي تتعرض للعنف الإلكتروني تخسر شيئًا من نفسها في كل مرة، حتى وإن لم تُمسّ بيد.

العنف الإلكتروني لا يؤثر على الضحية وحدها، بل يمتد أثره إلى محيطها الاجتماعي كله. فحين تُنتهك خصوصية المرأة، تتأثر عائلتها، وأصدقاؤها، ومكانتها في العمل والمجتمع. قد يتحول خوفها الي عزلة واكتئاب ،والمجتمع كثيرًا ما يضاعف ألم الضحية بدل أن يخففه، حين يُحمّلها المسؤولية أو يشكك في سلوكها، وكأنها شريكة في الجريمة التي وقعت عليها. هذه النظرة القاسية تجعل النساء يصمتن ويواجهن المعاناة في صمتٍ طويل.
مواجهة هذا النوع من العنف يحتاج تشريعات واضحة تضمن حق المرأة في الأمان الرقمي. القوانين وحدها لا تكفي إن لم يصاحبها تطبيق فعلي وتدريب للجهات المختصة على فهم أبعاد هذه الجرائم المعقدة، كما أن وجود وحدات متخصصة لمكافحة العنف الرقمي وتقديم الدعم القانوني والنفسي للضحايا أمرا ضرورياً، كذلك يجب إحداث وعي مبكر للمجتمع ، فعلى الأسرة والمدرسة والإعلام أن يغرسوا في النشء قيم الاحترام الرقمي واحترام الحدود الشخصية منذ الصغر، وأن يفهم الأبناء أن الحرية لا تعني الإيذاء، وأن الكلمة قد تسبب جراحا لا تندمل، فالتربية الواعية تصنع جيلًا يحترم ذاته ويحترم الآخر، ويستخدم التكنولوجيا للبناء لا للهدم .
العنف الإلكتروني ضد المرأة ليس مجرد تهديد رقمي، بل هو اعتداء على الكرامة الإنسانية يترك أثرًا عميقًا في النفس، ويكشف عن غياب الضمير والهمجيه في عالم يدعي التحضر لأنه يمتلك أساليب التكنولوجيا ولكنه للأسف يسيء استخدامها. النساء اللواتي مررن بهذه التجارب لم يفقدن فقط خصوصيتهن، بل خسرن شعورًا بالأمان لا يُعوّض بسهولة، أن المعركة ليست بين امرأة ومعتدٍ، بل بين الإنسان وقسوة التكنولوجيا حين تُستخدم بلا ضمير. إننا بحاجة إلى مجتمعٍ لا يبرر الأذى،وإعلامٍ يسلّط الضوء على المشكلة لا على الضحية. فالكلمة التي تُقال قد تُنقذ إنسانًا أو تدمّره، والصورة التي تُنشر دون إذن قد تدمر حياةً كاملة. لنستيقظ قبل أن نصبح جميعًا ضحايا في عالمٍ يختبئ وراء الشاشات ويقول من وراها ما لا يجرؤ على قوله وجهًا لوجه، ولنتذكّر أن التكنولوجيا مهما تطورت، لن تكون أبدًا أقوى من الإنسان الذي يستخدمها…


