أمهات بالإكراه: لماذا لا يتقبل المجتمع رغبة بعض السيدات في عدم الانجاب

الاثنين ٤ أكتوبر ٢٠١٩                  ـــ كتبت: سلمي محمود

shutterstock_104066183.jpg“لا أريد أن أُصبح أُم”. هكذا بدأت احدى الفتيات حديثها على جروب نسائي شهير، كان الأمر أشبه بصرخة مكتومة خبأتها طويلاً  بعيداً عن الأعيُن، لم تكن تبحث من خلالها عن حلول بقدر ما كانت ترغب في أن تُنبش بين أجوبتهن عن يد تُربت عليها، إيماءة رأس تُطمئنها، ابتسامة تُنصفها ولكنها بالتأكيد تراجعت مئات المرات لأسباب لا يغفلها أحد. فانتِ تعلمين يا عزيزتي ما يـعنيه أن يتخذ المرء موقفًا مغايًرا للتوجهات النمطية المعتادة والمتعارف عليها في مجتمعنا، تعرفين هذا الشعور القميء الذي يسيطر عليكِ عندما يُصنفك الناس بأنكِ “مختلفة”، هذه الكلمة التي تستخدم أحيانًا كبديل مُهذب عن اتهامك بالإصابة بمرض عقلي!، بالتأكيد كان هناك صراع ضاري يدور في عقل هذه الفتاة تضاربت فيه كافة الهواجس والأفكار ولكنها في النهاية استجمعت قواها وانطلقت من داخلها تلك الصرخة التي دَوى صداها أركان هذا الجروب النسائي.

موقف ربما لم يكن ليحتاج إلى كل تلك الترتيبات الأمنية لو كنا في مجتمع أخر يحترم اختلافات الأخرين ويساعدهم على اجتياز مشاكلهم الناتجة عن ذلك الاختلاف ويشملهم بدعم نفسي ومعنوي، لكن في مجتمعنا هنا لن تجد دعم إنما جيش معادي يطلقك عليك سيل من الأحكام الأخلاقية ويضعك في قفص الاتهام، لن تجد مساعدة إنما هجوم ضاري واتهامات شرسة تنال منكِ وتُطاردك بدلاً من طمئنتك، ستنالك ابتسامات سخرية واستهزاءات بمشاعرك وتقليل فج منها !استجواب وطرح أسئلة تحت غطاء “المساعدة” ولكنها ليست سوى نواة لهجوم أشرس واستهزاء أعمق!

تعجبت من غريبة الأطوار هذه التي لا ترغب في تجربة شعور الأمومة التي لا يضاهيها أي شعور مُماثل، جاءتها الردود من متابعات الجروب والتي تراوحت بين حصر طويل لمزايا أن تصبح أُم وحصر موازي لعيوب تفويت الفُرصة، مع استعراض تجاربهن الشخصية الناجحة، وأخيرًا فقرة الاتهامات الدينية والتي بدأت باتهامها بمعارضة الدين والفطرة و ما لبثت أن تحولت إلى التشكيك في دينها شخصيًا!

حاولت الفتاة تبرير موقفها بطرح أسباب الرفض أملاً في استعطاف عضوات الجروب؛ قالت انها “لا تملك أي رغبة في إنجاب طفل يبقى مُلتصق بها لبقية عُمرها، وبأنها ليست مُستعدة لتلك التجربة وبإعتقادها إنها ستظل لبقية حياتها لديها عقدة ما تقف حائلًا بينها وبين تجربة شعور الأمومة. أخبرتهن بانها لا تشعر إنها أهل لتلك المسؤولية التي صنفتها بأنها من أعتي وأقسى المسؤليات، وبأن مشاعرها تجاه الأطفال ليست على مايرام لأنها ليست من النوع الذي يُمكن أن يبقى بجانب طفل لساعات دون أن تصاب بمرض عقلي أو تُفكر في ارتكاب جريمة ما، وبأنها لا تملك غريزة الأمومة تلك، وكأنها سُجلت غياب حين وُزعت على باقي النسوة…”. لكن كل هذه المبررات لم تُنصفها، ولم تحرك في مشاعر عضوات الجروب شيئًا ليخففن حدة الهجوم عليها. هذه التبريرات لم تخرجها من قفص الاتهام التي وُضعت فيه عُنوة تحاسب على جريمة لم ترتكبها، بل كانت بمثابة قطرة بنزين سالت على نيران مشتعلة فزادتها اشتعالاً!

الموقف برمته جعل عدة تساؤلات تقفز في عقلي تنتظر الإجابة، هل الجميع بالفعل يردن أن يصبحن أمهات يومًا ما؟ وهل غريزة الأمومة موجودة في كل من تحمل لقب أُنثى؟ هل كل من مررن بهذه التجربة أصبحن أمهات سويات ولم تكن تلك الهواجس سوي غيوم سوداء تعيش فقط في الجانب المُظلم في عقولهن؟ هل الأمومة فرض أم اختيار؟ هل يمكن التحول من أقصى اليمين إلى اليسار وتقبل أشياء لا نرغب بوجودها دون أن يكون في الأمر شُبهة غصب أو فرض قوة؟ أسئلة عديدة ربما اختلفت تفاصيلها ولكنها تصب إجاباتها كلها في أتجاه واحد، وهو النفي.

إذا لماذا يُشن كل هذا الهجوم علي من تفكر في عدم الانجاب؟ هذا دعيني أُجيب: الأمومة في مجتمعنا ليست اختيار شخصي يعود قرار الإقدام عليه أو تجنبه اليك فقط، إنما هو فعل عام يشترك فيه كل من تقابليه في رحلة حياتك، أمر عليكِ الإذعان له مهما كانت حالتك/ مبرراتك/ جاهزيتك/ وتقبلك له. الانجاب هو فرض عليك اتباعه دون مناقشة أو تفكير، لن تُفيدك مُبرراتك ولن تنفع معه رغبتك الشخصية. هو طريق يجب عليكِ أن تسلكيه وإن لم يكن طريقك المناسب. فرض الانجاب يبدأ مُنذ الصِغر، منذ أن تبدأ الدُمى والعرائس تنهال عليكِ من كل صوب وحدبوكأنه يتم من خلالها تهيئتك لدور الأم المحتمل مستقبلاً، فحتى وإن كنتِ تُفضلين اللعب بالمسدسات وسيارات السباق، عليكِ ضرب تفضيلاتك عرض الحائط وإتقان دورك جيدًا!

في مجتمعنا  تكبر الفتاه وتتزوج لينهال عليها فيضان جاري من الأسئلة من نسوة الأقارب والأصدقاء وحتى الجيران، تبدأ بالسؤال المعتاد”ألم تُصبحي أمًا بعد؟” فور أن تطأ قدماها عش الزوجية، ثُم يتبعها ترشيحات فورية لأطباء النسا وعيادات تأخر الإنجاب، وأحيانًا يتطور الأمر لتقديم النصائح باستشارة الدجالين للتأكد من عدم مُعاناتها من مَس يُعيق حَملها أو ما شابه! تشعر الفتاة حديثة الزواج وكأن خبر حملها أصبح شأنا عامًا يخص الجميع، وإن لم يُحدث الحمل فربمًا يتوقف العالم وينقرض البشر! أما إن كانت لها رغبة مُغايرة سواء برفض المبدأ أو تأجيل الانجاب قليلًا فستُصيبها مقصلتهن دون أي شفقة أو رحمة!

الكل لديهن إجابات وردود نمطية، باهتة على سؤال “لماذا أردن أن يصبحن أُمهات؟”، الإجابات تتراوح ما بين إنها سُنة الحياة وضرورة لاستمرار الجنس البشري، أو لأن الجميع يفعلن ذلك؛ “فلماذا نتزوج إن لم تكن لدينا الرغبة في الإنجاب؟” كما أن الحياة ستكون مُملة، بائسة دون أطفال، بالإضافة إنها الحيلة الأمثل التي تُمكن الزوجة من الاحتفاظ بزوجها تبعًا لمبدأ “أربطيه بالعيال”. وعلى غرار “كلنا أتضربنا من أهالينا وطلعنا أسوياء” يحدث الأمر، فكل النسوة في العالم يردن الأنجاب وكلهن أيضًا مررن بتلك العلامات والهواجس في بداية الأمر ولكن ذلك لم يمنعهن من أن يصبحن أمهات سويات، عظيمات!

كل هذه الإجابات أبعد ما تكون عن تلك التي يُفترض أن تُحدد قراراً مُهما مثل الأمومة التي تعتمد بشكل أساسي على العاطفة والرغبة القوية والاستعداد النفسي والمعنوي، فأن كُنتِ تكرهين أكل التُفاح مثلاً ولكن يُفضله جميع مَن حولك، كما أن لونه أحمر جذاب، هل تلك أسباب قوية تجعلك تعدلين عن قرارك وتفضلينه؟ يفترض أن تكون الإجابة لا، لكن المفاجأة إن البعض يأكله ، نعم البعض تكون الضغوطات من حولهن قوية لدرجة أنهن يضطررن إلى التهام حبات التفاح حتى أخر حياتهن وهن لا يطقن حتى النظر إليها! لا أتحدث هنا عن مَن كان الإنجاب قراراهن الشخصي دون فرض أو إجبار، من كان حلم الأمومة يراودهن ربما قبل حتى أن يخترن أزواجهن، ولا عن هؤلاء اللاتي كانت الأمومة حلمًا مؤجلاً احتجن فقط بعض الوقت ليحدث الأمر، ولكني أتحدث عن اللواتي سرن في هذا الطريق فقط تبعًا لمبدأ “هذا ما وجدنا عليه أمهاتنا” حتى وإن كانت رغبتهن الشخصية عكس ذلك كُليًا! أتحدث هنا عن هؤلاء ممن كانت لديهن مبررات قوية تدفعهن للرفض والثبات على موقفهن ولكنهن بدلاً من ذلك قمن بضربها عرض الحائط والرضوخ للضغوطات، رغما عن العواقب!

الضغط هنا لا يولد فقط الانفجار، لكنه يولد أيضا الخضوع والاستسلام والخوف. هذا الضغط تسبب في توليد فئات مُختلفة نراها يوميًا وربما لا نعيرهن اهتمامًا ولا نشعر حتى بمعاناتهن، فهناك من حاولن المقاومة والثبات على قرارهن ولكن خشين أن يلقين نفس المصير الملعون (الذي تعرضت له الفتاة في الجروب النسائي)، لذا قُمن بالتواري عن الأنظار وأخفين تلك الرغبة بعيدًا عن الأعين، أو أفصحن عنها على استحياء مع سرد مئات المبررات التي يُمكن أن تُخفف من حدة الأمر، أو هكذا يظنون!

وهناك من استسلمن، سرن مع التيار واضطررن إلى التهام حبات التُفاح يوميًا دون توقف بل وادعاء الاستمتاع بها وكأنها فاكهتن المفضلة! هؤلاء هن من أُجبرن على مُمارسة فعل الأمومة دون أن يكون لديهن دوافع أو رغبة حقيقية في ذلك، بل امتلكن أسباب حقيقية دفعتهن إلى رفض الانجاب ، ولكنهن لم يستطعن المقاومة، البعض منهن حاولن التأقلم على وضعهن هذا، وربما فعلن ولكن ظلت بداخلهن تلك الغصة التي نشعر بها جميعُا حينما نضطر إلى السير عكس رغباتنا. أما البعض الأخر فلم يستطعن تجاوز الأمر، فلم تكن تلك الأفكار مجرد هواجس في عقولهن إنما كانت أسباب حقيقية للرفض، هواجس صارت واقعًا وانعكست عليهن بالسلب، دمرت حياتهن وحولتها إلى مسار لم يتوقعن ابدًا السير به، وتسببت في تحوليهن إلى النساء اللاتي لطالما كرهنهن! فبدلاً من أن يصبح الأطفال زينة حياتهن أصبحوا مثل الغصة التي تؤرقهن دون أي سبيل للفرار أو الرجوع، أُجبرن فقررن مُمارسة الفعل ذاته مع أطفالهن، فُهرن فقهرن أطفالهن وكأنهم المسؤولين عن كُل هذا، اضطررن إلى التخلي عن حياتهن وأحلامهن والاستسلام لأمر واقع وكأنه كابوس لا يستطيع الاستفاقة منه فقررن أن يذيقن أطفالهن الفعل ذاته دون شفقة أو رحمة!

يُمكن القول أن لكل قصة جانبين؛ جانب معلوم والأخر مجهول ودائمًا ما يكون أكثر سوداوية ومأساوية! الجميع يشفق على الزوج الذي اضطر أن يقضى حياته دون أن يحمل لقب أب، أو يلعن حظ الأطفال التعس الذين أوقعهن في أُمهات شريرات، ولكن لا أحد ينظر إلى الجانب الأخر من القصة حيث الأمهات المُعذبات اللاتي لا أحد يعلم المُعاناة التي وُضعهن بها رغمًا عنهن!

لكنك تعرف الآن الوجه الأخر من القصة يا أعزائي!

في نهاية حديثي أؤكد أن الأمومة لم تكن أبدًا فرضًا إنما اختيارًا شخصيًا يختلف من شخص لأخر؛ البعض يستطيع، البعض الأخر لا. انجاب الأطفال قرار يجب أن تتخذه الفتاة وفقًا لرغبتها الشخصية في خوض التجرُبة واستعدادها للأمر من كافة النواحي وليس استجابة للضغوطات أو ربط الزوج أو قتل الملل!، غريزة الأمومة ليست نبتة زُرعت في كُل أنثي دون استثناء، ولكن البعض وُلدن دون تلك النبتة ولا مجال لاستزراعها بداخلهن في وقت أخر، وهذا يفسر كيف أن البعض لديهن مَلكة تحمل تربية جيش من الأطفال دون كَلل أو مَلل بينما الأخريات لا يطقن الجلوس بجانب طفل واحد لمدة لا تزيد عن عشرة دقائق! من تُفكر في خوض تلك التجربة عليها أن تضع كافة العواقب والاحتمالات أمامها أولاً و تفكر بها مليًا قبل الاقِدام على تلك الخطوة، وتعلم أنه ليس لأطفالها يد في قراراها هذا؛ هي من قررت وهي من تتحمل المسؤولية كاملة.

أخيرًا هذه ليست دعوة للامتناع عن إنجاب الأطفال إنما هي دعوة لتقبل واحترام اختلافاتنا، دعوة للتفكير وتحديد اختياراتنا بُناء علي قراراتنا الشخصية ومناسبتها لنا، لا استجابة لضغوطات ولا محاكاة لتقاليد! انها دعوة لنقول “نعم” للخيارات التي تناسبنا و”لا كبيرة” للتي هي أبعد ما تكون عنها، انها دعوة ليكون لدينا أُمهات سويات، عظيمات أقبلن على الخطوة وفي داخلهن حُب وتشوق للتجرُبة وليست أُمهات بالإكراه!

31530792_2118869535025007_2375980014135934976_nسلمي محمود

إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني **

أضف تعليق