ماذا تخبرنا القطع الأثرية القبطية عن المرأة في مصر القديمة: نساء قويات في ثياب رثة | الجزء الثاني

الإثنين ٣ مارس ٢٠٢٠                   – كتبت : د. إنجي حنا

87382410_644931466074672_7743890978888482816_n
Via : ABC Central Victoria: Larissa Romensky)

أين تكمن قوة النساء؟ في الثراء، الوظيفة المرموقة، الزواج من رجل “مهم”، إنجاب الذكور، النبوغ الفكري، الجمال الحسي، الفضيلة ام القدرة على احداث تغيير؟

اختلف الحديث عن قوة النساء باختلاف المظلة الثقافية للمجتمع، ما وصل لأيدينا من الإرث القديم يروي حكايات عن نساء استثنائية لا تعبر بالضرورة عن واقع مجتمع او قناعة شعوب بأكملها: حتشبسوت الجالسة على عرش مصر بزعم بنوتها للإله آمون كانت استثناء؛ نساء اسبرطة المتحررات ومهاراتهن الرياضية كن أيضًا استثناء. في الغالب اقترن ذكر قوة النساء في تاريخ العالم القديم بظهور غير معتاد لحالات فردية او جماعات محدودة كسرت تابوهات من وجهة نظر المجتمع “آمنه”.

ماذا عن نساء مصر القبطية واللاتي نساء عشن في فترة فاصلة بين العصور الكلاسيكية والعصور الوسطى؟

في وقت كان النموذج الآمن لحياة النساء هو الزواج والإنجاب، ظهر نمط جديد لقوة المرأة “رهبنة النساء”، ساحة بارزه حظيت بتأييد مجتمعي رغم كسرها للمألوف، مضمار تبارت فيه المرأة مع الرجل ووصلت لأعلى درجات النسك والروحانية.

83042054_2779970902097339_5316386204902490112_nبَنَت هذه الحركة أساساتها إيمانا بأن طبيعة النساء كالرجال قادرة على تحقيق الكمال الروحي، يقول العلامة اكليمندس الإسكندري (فيلسوف وعالم لاهوت عاش بالقرن الثاني والثالث الميلادي): “ضبط النفس متاح لكل المخلوقات التي اختارته. بالنسبة للطبيعة البشرية، ليس للنساء طبيعة وللرجال طبيعة أخرى، بل لكليهما نفس الطبيعة. هكذا أيضا لهما نفس القدرة على اتمام الفضيلة”. على مثل هذه التعاليم شيدت رهبنة النساء صروحها في مصر. تدفقت اعداد كبيره من النساء الى الأديرة وبيوت العذارى حتى بلغ عدد الراهبات في بعض المواقع ضعف عدد الرهبان، وفقا لما ذكره أحد الرحالة اليونانيين في القرن الرابع ضمت مدينة البهنسا وحدها نحو عشرين ألف راهبه بينما سكن بها عشرة آلاف راهب.

لم تنحصر رهبنة النساء على التجمعات الرهبانية فقط فكان من بينهن من عشن في المدن و القرى وسط المجتمع، كان من بينهن أيضا من تحدين طبيعتهن و خلعن وهن أجسادهن الرقيقة فسلكن الصحاري و سكن الجبال. في عام ٤٢٠ كتب بيلاديوس أسقف بيثينيا (قرب اسطنبول) عن سيدة أرستقراطية تدعى ميلانيا (المعروفة لاحقًا باسم القديسة ميلانيا الكبرى) هربت من ضجيج الحياة في روما الى سكون صحراء مصر وقدسيتها فأصبحت رائده لحركة نسائية جذبت العديد من نساء الطبقة الأرستقراطية من كل ربوع الإمبراطورية الى مصر

في مناخ كهذا تميزت طبقة الراهبات بقوة غير مسبوقة لم تحظى بها الاخريات من الطبقات الأخرى. ركائز هذه القوة تتلخص في نقاط ثلاث:

١- كنيسة مصرية قبطية دعمت وضبطت قواعد الحياة الرهبانية (مثلما فعل البابا اثناسيوس في القرن الرابع مع عذارى الاسكندرية والانبا شنوده في القرن الخامس مع راهبات الدير الابيض لسوهاج)

٢- قاعده شعبية رأت في هؤلاء النسوة تجسيد نابض للفضيلة (كثمر لخدمتهن المجتمع)

٣- راهبات ثريات تخلين عن ثروتهن لدعم المجتمع الرهباني.

في حديثه عن ميلانيا يقول بلاديوس، ” أخذت كل ممتلكاتها ونقلتهم على ظهر سفينة، أبحرت سريعا الى الإسكندرية، وبعد ان باعت كل مقتنياتها في مقابل الذهب ذهبت الى جبل نتريا.”

إذن فهي قوة أمنت الدعم السياسي والمجتمعي والمادي.

هل كانت تلك الراهبات تعي قدر هذه القوة؟ لا يوجد نص واضح يجيب على هذا السؤال. قد تكمن الإجابة بين السطور. قد يلمح لها موقف عذارى الاسكندرية ودورهن في دعم البابا اثناسيوس في الصراع العقيدي والسياسي ضد آريوس واتباعه. فقد يشير ذلك على وعيهن بقوتهن كجماعة ضاغطة

قد نجد الاجابة ايضا في قول الام ثيؤدورا (احدى امهات الصحراء) لشيوخ رجال ذهبوا اليها ليستقوا من حكمتها حين قالت: “وفقا للطبيعة انا امرأة، ولكني لست كذلك من جهة افكاري.” وان انطوى هذا الحديث عن قناعة ذاتية بان النساء “أدنى” فكريا من الرجال الا انه يبرز كيف كانت حياة الرهبنة ميدان للنساء للتسلح بالقوة الفكرية كالرجال.

هكذا تشكلت الهوية الرهبانية للنساء (كما للرجال)؛ بالانقطاع للعبادة والفقر الطوعي وخدمة المجتمع والتلمذة الروحانية.. هوية صنعت من الضعف قوة

ترى كيف جسد الفنان القبطي ملامح هذه الهوية على الفنون؟

قد لا يوجد تصوير واضح لراهبات هذا العصر – على حد علمي. ربما يمكن استخلاص بعض ملامح مظهر الراهبات من خلال تصاوير السيدة العذراء (الرمز الكنسي الأسمى للبتولية ورهبنة النساء) التي يتشابه مظهرها فيها مع وصف النصوص المعاصرة للزي الرهباني النسائي.

81890145_512020912754388_1512541289554378752_nعلى سبيل المثال، على جدارية الشيخ عباده (القرن الخامس – ملوي- المنيا)، الى يسار ثيؤدوسيا (السيدة الواقفة في منتصف الجدارية) تقف السيدة العذراء ممسكة بما عرف بـ إكليل النصر ترتدي ثوب فضفاض اسود خالي من اي زخرفة وطوله يمتد الى أسفل القدمين وغطاء رأس يغطي الكتف ملفوف حول الجسد، واشارب ابيض يظهر أسفل غطاء الرأس. عند مقارنة مظهر العذراء بوصف البابا اثناسيوس لرداء العذارى الذي وضع مواصفاته في عمله المعروف ب ” عن البتولية” نجد انه يكاد يكون متطابق، كذلك ايضا يتوافق مع ملامح زي الراهبات كما وصفه جرونوتيوس في سيرة القديسة ميلانيا الصغرى (حفيدة القديسة ميلانيا الكبرى)، وكما وصفه ايضا يوحنا كريسوستوم وجيروم. أكدت هذه النصوص ان الملامح المميزة لرداء الراهبات هي البساطة، السعر الزهيد، اخفاء ملامح الأنوثة (تغطية الجسد وشعر الرأس تماما).

هكذا كانت تبدو الراهبات. مظهر متواضع، ثياب رثه، ولكنه حمل في طياته قوة وحصانة خاصة، حتى ان بعض النساء كالراقصات حين افتقدن الأمان كانت تتخفى في زي الراهبات. ترى لماذا قد تحتمي الراقصات في ثياب الراهبات؟ كيف كان مظهرهن الحقيقي؟ ماذا حملت هويتهن مما قد يعرضهم للأخطار؟ هذا ما سوف اتناوله في مقالي القادم ….

لقراءة  ماذا تخبرنا القطع الاِثرية القبطية عن المرأة في مصر القديمة – الجزء الاول – إضغط هنا

83077852_871663743263975_8868534874084999168_nد. انجي حنا مدرس الآثار والفنون القبطية بجامعة المنيا. أكملت د. إنجى حنا شهادة الدكتوراه في تاريخ الفن في جامعة ساسكس عام 2017. وتكرس أبحاثها في مجال تاريخ الفن البيزنطي المبكر، وبالتحديد التاريخ الاجتماعي والفن العلماني والنوع الجنسي والإدراك الحسي. كان لها تعاونا مكثفا مع أعضاء هيئة التدريس بجامعة ساسكس. وقد صممت ونفذت دورات حول الفن القبطي، والفن المسيحي المبكر، وتاريخ الفن البيزنطي في مصر والمملكة المتحدة. كتابها “المرأة في مصر القديمة من خلال الفن القبطي” سيعرض قريبا في المكتبات.

** إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني

أضف تعليق