بعيدا عن هم هذا الزمان: عن أبي الساحر الأعظم | د. مني النموري

الاثنين ٨ مايو ٢٠٢٠             كتبت: د. مني النموري

102
د. مني النموري 

كان أبى رجلاً من طراز فريد، يتشابه فى كثير من الصفات مع رجال جيله ويتميز ببعض منها يخص قدرته على نقل الحنان والرعاية لأبنائه، رجل تميز بالكفاءة والمهارة فى عمله كرجل مال وصناعة من المقام الرفيع، ويتميز بالحنان والنشاط فى خدمة أهل بيته والعناية بهم، والأكثر عجباً أنه كان رجلاُ اجتماعيا ومجتمعياً شاملاً، لاتفوته مناسبة لقريب أو بعيد فى بلدتنا الصغيرة، ولا يمر عزاء دون تواجده، ولا يضع الله فى طريقه باباً للخيرألا وطرقه، ولا مشروعاً مجتمعيا يخدم الناس إلا وحمل لوائه، الأمر الذى تتعجب له وتجد نفسك متسائلاً كيف يجد الوقت والجهد لكل هذا، لكنك الجهد حين تعرف أن البدة كلها كانت فى وداعه حين مات، وأن رئيس المدينة اضطر الاستعانة برجال المرور لتنظيم حركة الناس والعربات فى عزائه، وأن أهل بيته تلقوا العزاء من إناس لا يعرفونهم أتوا باكين معزيين أنفسهم محدثين الناس عن أعمال خير كان يقدمها لهم فى الخفاء، أشياء لانعلم عنها شيئاً ونحن من ظننا أن كل ما نراه من عمل الخير كان يحدث أمامنا لنتعلم ونقتدى.

لكننى أكتب اليوم لأحكى عن إطعامه لأهل بيته بيديه الكريمتين وهو من استطاع أن يستعين بدلاً بمساعد واحد بعشرة. كان أبى يحضر الفاكهة و الخضار الأجمل فى الحياة، ودائماً بكميات وفيرة، لنأكل ما نأكل ونحفظ ما نحفظ ونهادى من نحب. أتذكر اننى تعودت على رؤية الكميات الكبيرة لدرجة أننى فوجئت بعدد حبات الموز فى الكيلو الواحد بعد أن تزوجت وأصبحت أشترى لفردين فلم أرَ أبداً كيلو موز “واحد” فى بيتنا، كان دائماً يأتى فى ” سوباطة” لتتناوله يدا أبى بالتقطيع والتغليف حتى تمام النضج.

إفطار المدرسة كان دوماً تخصص أبى هو وشطائر المدرسة التى نأخذها معنا، رغبة منه فى أن تنام أمى ساعة إضافية قبل العمل، كان أبى من جيل يحترم عمل المرأة ويدعمها فيه. وحرصاً منه على توفير وجبة متنوعة ومفيدة، أجمل طبق فول كان من يد أبى يقشره ويخلطة بالطحينة والملح والكمون والليمون والطماطم والزيت والثوم، ولا أدرى حتى الآن كيف كنا نأكله ونفهم الدرس بعدها لكننا كنا نفعل. والجبن القريش، يحوله من وجبة صحية قد يكرهها البعض إلى وجبة لذيذة بتقطيع الطماطم والخياروالفلفل الرومى قطعاً صغيرة وينوع فيها تارة بوضع الجزر وتارة بوضع الزيتون مع الزيت والليمون والتوابل، أنواع البيض المختلفة كان أبى يقدمها مع العيش المحمص والشاى. لا أظن أننى قد أكلت إفطاراً أشهى من إفطار أبى مهما زرت من فنادق أو منتجعات.

أجمل سلطة خضراء كانت من يدى أبى، وكان لها خليط خاص يصنعه لها يسميه دعابةً “الويسكى” عبارة عن ماء البصل، الثوم، الزيت والليمون والملح ، ولو قررت ارتشاف “الويسكى” من يد أبى فاعرف انك ستمر بتجربة فريدة تجد فيها شعاع ضوء خرج مثل الصاروخ من دماغك ودخان يخرج من أذنيك ومعه البكتريا والفيروسات وجرثومة المعدة والبرد من جسمك.

كان غذاء يوم الجمعة من السمك مثل أغلب البيوت المصرية وقتها، يحضر أبى السمك الطازج من على نيل بلدنا مباشرة من إحدى الصيادين ويحضره والسمكات لاتزال تلعب وتتقافز، ويساعد أمى فى تنظيفه وتتبيله وتجهيز السلطة أم ويسكى وقبل الصلاة يستحم ويتعطر وتنتهى مهمته، لا أزال أتذكرطعم السمك فى طفولتى فى السبعينيات والثمانينيات قبل أن تتلوث مياة النيل بمخلفات المصانع والبشر، سمك كما تركه أجدادنا الفراعنة، ومن يد كريمة هى يد أبى.

ولأبى أكلات كان يشتهر بها، يصنعها لنا صغاراً لايزال طعمها حياً على اللسان، منها صينية البطاطس “المشطشطة” حيث كان يحضر البطاطس والبصل ويقطعهما مكعبات صغيرة للغاية ويتبلهما بالملح والفلفل مع التوصية بمقدار الفلفل ويغطيها ويسويها فى الفرن ويقدمها مع الخبز الناشف، خبز فلاحى كان يُخبز خصيصاً على شكل قارب ويُحفظ فى أقمشة نظيفة فقط لهذا الغرض، قبل ثورة التبريد والتجميد بزمان. جربها عن أبى وكن مستعداً بسطل ماء بارد تشربه من بعدها!

أما التحلية فكانت شعرية بالسكر، لاتزال صورته محفورة فى عينىّ وهو يصنعها على البوتجاز واقفاً فى شموخ وحِرفية ينعكسان فى حركات يديه الواثقتين. يبدو أننى كنت صغيرة جداً حين حُفرت هذه الصورة فى ذهنى لأننى كنت أنظر لأعلى، وكأننى جالسة على سجادة المطبخ او كرسى المطبخ المنخض. فتح أبى القدرووضع فيه معلقتان من السمن الفلاحى، ثوانٍ وفاحت الرائحة فى المطبخ وانتشر معها الدفء، ثم أنزل الشعرية على السمن المقدوح فامتلأ المطبخ بصوت “طشة” محببة ثم صوت صليل الملعقة المعدنية يخبط فى جوانب القدر بحركة متناغمة حتى تمام الاحمرار، ثم “طشة” أخرى حين ينزل الماء المغلى، دقائق مرت كنت فيها أتحرق شوقاً للوجبة المحببة ، وتزيد الرائحة الذكية من رغبتى، ثم أطفأ أبى الموقد ووضع السكرعلى الشعرية وقدمها، متوهجة الحرارة، مقرمشة السكر، متقدة بالمحبة والحنان!

كان أبى يصنع الطعام عن حب وبحب لأهل بيته، وكان يمد يد المساعدة والدعم لأمى ولنا رغم وجود من يساعد ، ويعتبر الوقت الذى يقضيه معها فى اعداد الطعام وقتاً مميزاً. كان رجلاً يدرك أن العناية بالبيت فناً عظيما لايمكن الاستهانة به ولا يصح أن تستأثر به النساء، وأن أعمال المنزل من طبخ ونظافة مهارات أساسية من دونها الرجل ناقصاً وبها لا تنقص رجولته بل تكتمل وحين يدخل المطبخ كان يتركه أكثر نظافة ونظاماً مما كان. كان رجلاً لا يستنكف أن يخدم أهل بيته وهو الذى يأمر مئات من الموظفين فيُطاع ولايجد تعارضاً بين هذا وذاك.. كان رجلاً من جيل يعرف أن الذكريات السعيدة الغنية هى ميراث وحصن أمان لأولاده مثلها مثل المال، وأن الزوجة السعيدة الآمنة هى شفاء له ولأولاده.

كان آخر ما صنعه أبى مع أمى من طعام مربى تين، أحضر قفصين من التين وساعدها فى الغسل والتقطيع والمتابعة حتى تحول القفصان إلى مربى، بعد وفاته بشهور تصادف أننى كنت فى بيت الأسرة، أخرجت أمى آخر برطمان منها وعرضت أن آخذه معى لبيتى، أمسكت بالبرطمان طويلاً ثم رفضت العرض وانا أعلم أنه ربما أندم على هذا فيما بعد ولكننى شعرت أن وجود البرطمان فى بيت الأسرة هو مكانه الحقيقيى. أخذت ملعقة صغيرة، وضعتها على لسانى وأغمضت عينى وأذنى، تمنيت أن أغلق كافة أبواب الحواس لتتبقى حاسة التذوق وحدها، وأخذت أستشعر أبى فى كل ذرة من المربى المثلجة والمرملة على لسانى، ثم رجعت بيتى، وأنا أغير ملابسى شممت رائحة التين فى بلوزتى، بحثت عن المصدر حتى وجدت بقعة صغيرة من المربى على صدرها، لحستها بلسانى وانا أبتسم وامتلأت جفونى المغمضة بصورته البهية.

28660981_461483454268959_5173145447697833684_n

نقلا عن اليوم الجديد

أطعمك الله من طعام أهل الجنة يا أبى، وكل أب يملأ جيوب أبنائه من ميراث الحنان الصافى الذى لايموت.

 

د. منى النموري: أستاذة جامعية وناقدة أدبية وكاتبة إبداعية ومترجمة أدبيةيعد الأدب النسوي وأدب الأطفال والنشء والفنتازيا والصوفى من بين اهتماماتها الرئيسية في أعمالها النقدية وكتابتها وترجمتها. نُشرت لها العديد من الترجمات باللغة الإنجليزية واللغة العربية. نشرت النموري كتابها الأول “ثرثرة فوق نهر التايمز” بدار العين عام ٢٠١٧

 

أضف تعليق