السيدة العذراء في الفن القبطي المبكر | د. دعاء بهي الدين

الجمعة ٧ أغسطس ٢٠٢٠             – كتبت: د. دعاء بهي الدين

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)

إن الحديث عن السيدة مريم العذراء لا يجف ولا ينضب ابدا ؛ هي بلا شك أهم شخصية نسائية ذكرت في الكتاب المقدس، وهي أيضًا سيدة نساء العالمين التي اختصها القرآن الكريم بسورة سميت باسمها.

وكان للفن القبطي المبكر او ما عرف باسم الفن المسيحي المصري دور محوري في القاء الضوء على المراحل المختلفة من حياتها من خلال العديد من المشاهد الجدارية، بداية من ميلادها، ومرورا بصعودها الهيكل،  وتلقيها البشارة وزيارتها لاليصابات،  ثم ميلاد السيد المسيح ودخوله الهيكل والهروب الى مصر، وشهادتها على بعض المعجزات التي قام بها السيد المسيح ونهاية بواقعة الصلب والتجلي والقيامة. وقد حرص الفنان القبطي في معظم تلك المشاهد على تصوير السيدة العذراء على يمين السيد المسيح تطبيقًا لما جاء في احد المزامير “جلست الملكة على يمين الملك”.

كان تصوير السيدة العذراء نادرًا إلى حد ما في الفترة المبكرة من ظهور المسيحية، لاسيما في مصر ويعتبر مشهد البشارة في جبانة البجوات بمزار السلام بالواحات الخارجة من أوائل المشاهد التي صورت العذراء، وتظهر فيه واقفة في وضعية التضرع Orans  تثني ذراعيها وتفتح كلتا يديها، وترتدي رداءً واسعًا (دالماتيك) أرجواني اللون به خطوط زخرفية باللون الأخضر، وشعرها أشقر مموج ينسدل على كتفيها وتضع خمارًا أبيض يتدلى خلفها، وبجانب أذنها اليمنى حمامة تهمس لها، وهي حمامة البشارة تخبرها بأمر الرب، وفوق رأسها كتب اسمها ماريا MAPIA باللغة  اليونانية وفوق الحمامة يظهر الصليب  على شكل زهرة.

Picture1
بشارة العذراء، بالبجوات بالواحة الخارجة

ساد الاهتمام بتصوير العذراء في القرنين السادس والسابع الميلاديين  واتجه الفنان لتكثيف صور العذراء والمسيح الطفل. وهي الوضعية التي لم تصور في الفن البيزنطي وتفرد بها الفن القبطي.

في دير أرميا بسقارة تم تقديم العذراء والمسيح الطفل أكثر من مرة، ففي القلاية الأولى (القلاية او الصومعة هي غرفة خاصة بالراهب داخل الدير يعتزل فيها للعبادة والصلاة) صورت السيدة العذراء جالسة على العرش والمسيح جالس على فخذها وتضمه بيدها اليمنى وتُرضعه بيدها اليسرى، وترتدي تونيك وعباءة بالا (عباءة فضفاضة ذات ثنيات) تغطي شعرها، والتونيك له ثنيات متعددة نفذت بدقة، وتحيط برأسها الهالة المقدسة وحول رأسها زخرفة حلزونية، والمقعد الذي تجلس عليه ذو أربع قوائم وسنادة طويلة للظهر ومرصع من جميع الجوانب، والرداء أرجواني زُين بثلاث صلبان على غطاء الرأس، والعذراء ظهرت في شكل سيدة شابة دقيقة الملامح ذو عينين واسعتين وحواجب كثيفة وأنف دقيقة وفم صغير يحمل ابتسامة بسيطة، أما المسيح الطفل فيظهر في حجم الأطفال، ولكن وجه يحمل سمات الرجولة، يجلس على ركبتها اليمنى يرتدي تونيكًا أصفر اللون ذو ثنيات، وشعره مجعد ويحيط برأسه الهالة المقدسة، ويُمسك بالمعصم الأيسر للسيدة العذراء، والمشهد بأكمله داخل مشكاة مزخرفة بأوراق الأكانثوس، وتعتمد على عمودين لهما قاعدة وبدن وتاج، كما أن العذراء تتجه بنظرها للمشاهد، بينما المسيح يتجه بنظره ناحية اليسار.

Picture1.png ٢
العذراء ترضع المسيح Theotokos ،بدير آرميا – سقاره.

وهناك مشهد آخر للسيدة العذراء بنفس الدير يُشبه إلى حد كبير المشهد السابق، مرسوم علي مشكاه مزينة برسوم جدارية، يصورها جالسة على مقعد ترتدي تونيك وبالا أرجوانية اللون، وتحيط برأسها الهالة المقدسة، تحمل المسيح الطفل على فخذها الأيمن وتضمه بيدها اليمنى وتحاول إرضاعه بيدها اليسرى، والمسيح يُمسك معصمها الأيسر بكلتا يديه، ويرتدي تونيك باللون الأصفر الفاتح، وهناك جزء من القطعة قد طُمس، فنجد على يمين المسيح مصور أحد الملائكة على الحائط الداخلي، وإلى اليسار من العذراء نجد بقايا تصوير لملاك آخر، ويعلو رأس العذراء زخارف نباتية، ثم يعلوها أشكال لوجوه سيدات تحيط برؤوسهن الهالة المقدسة، وجميعهن لهن شعور سوداء ثقيلة وعيون سوداء واسعة، وربما كانت تلك الوجوه تُجسد مجموعة من الفضائل، والمشكاة مُزينة من الخارج بزخارف نباتية وهندسية وارتكزت على عمودين، وقد تنوعت الألوان ما بين الأرجواني والأبيض والأصفر والأخضر.

Picture1.png ٤
العذراء ترضع المسيح، الثيوتوكوس Theotokos، دير الانبا أرميا بسقاره.

وقد ظهر مشهد الإرضاع في دير السريان بوادي النطرون (دير السريان هو أحد الأديرة بمنطقة وادي النطرون وأصغرها مساحة، ويقع ما بين دير الأنبا مقار ودير البراموس، وقد أسس على يد رهبان سوريون في القرن السادس الميلادي، لذا فقد سُمي السريان، ويحتوي الدير على أربع كنائس وحصن، ويشتهر الدير بوجود القلاية الأصلية التي كان يعكف بها الأنبا بيشوي)، والذي يرجع للنصف الثاني من القرن السابع الميلادي. في هذا الدير، صورت السيدة العذراء جالسة على مقعد أرابيسك – وهو تأثير إسلامي – و يجلس المسيح الطفل على فخذها الأيمن، تحيط برأسه الهالة المقدسة داخلها الصليب، وله شعر كثيف أسود، ويرتكز بكلتا قدميه على الفخذ الأيسر للعذراء، وتحيط برأسها الهالة المقدسة ذات اللون الذهبي، وخلف رأسها يظهر شكل نصف دائري باللون البرتقالي بنفس لون المسند خلف ظهر العذراء.

Picture1.png ٥
العذراء ترضع المسيح Theotokos، بدير السريان.

ظهرت العذراء في كل الأمثلة السابق ذكرها مصاحبة للمسيح الطفل، ولكنها ظهرت أيضا منفردة بدون في دير الأنبا أرميا بسقارة بشكل نصفي داخل ميدالية مغطاة الرأس، ويحيط برأسها الهالة المقدسة، ويحيط بها اثنان من الملائكة في أشكال أنثوية مجنحة، والأجنحة تحيط برؤوسهن تأخذ شكل حرف U، وهي من المرات القليلة التي ظهرت فيها السيدة العذراء بدون المسيح الطفل في القرن السادس الميلادي.

Picture1.png ٦
وجه السيدة العذراء داخل ميدالية يحيط بها الملائكة، دير الانبا أرميا بسقاره.

واكثر الايقونات روعة وجمال سواء من حيث طريقة التنفيذ والالوان توجد في كاتدرائية سانت كاترين بسيناء، وتعود إلى النصف الثاني من القرن السادس. تتوسط السيدة العذراء الأيقونة، جالسة على العرش والمسيح الطفل بين ذراعيها جالسا علي فخذها، محاطين باثنين من القديسين المحاربين، القديس ثيودور إلى اليسار والقديس ﭽورﭺ إلى اليمين، وفي الخلفية يظهر اثنان من الملائكة يمسكان بعصا متجهين بنظرهما إلى أعلى إلى يد الرب المنبثقة من السماء، وينبثق منها شعاع نور ساقط على العذراء والتي ترتدي تونيك أزرق وموفريون Mophorion. والمورفيون هو شال كبير يغطي الرأس، وقد تميزت به النساء الإغريقيات النبيلات، وبعد ظهور المسيحية أصبح زي للسيدة العذراء والقديسات، وقد ميز الفنان السيدة العذراء بالموفوريون الأزرق أو البني أو الأرجواني، وكان هذا الرداء هو المفضل لدى الفنان البيزنطي في تصويره للسيدة العذراء منذ الفترة المبكرة وحتى الفترة المبكرة من عصر النهضة.

في أيقونة كاتدرائية سانت كاترين، ظهرت العذراء يغطي رأسها الموفريون، وزُينت جبهتها بصليب مذهب، وقد نفذ الفنان تمثيل العذراء بعناية ما عدا اليدين التي ظهرت وكـأنها يد حجرية افتقرت الى الواقعية ، تتجه بجسدها وركبتها ناحية اليمين، بينما تتحول بنظرها ناحية اليسار، يجلس المسيح الطفل في كنف العذراء، كما قصد الفنان تصوير جبهة المسيح عريضة للدلالة على الرشد والنضج والقوة الروحانية، يحمل في يده اليسرى لفافة بردي، يرتدي تونيك وباليوم (وهو العباءة الرومانية الخاصة) ذو لون ذهبي، وتحيط برأسه الهالة المقدسة بداخلها الصليب ومزخرفة بدوائر صغيرة حول الإطار، أما هالات السيدة العذراء والقديسان والملاكان فتتشابه جميعها، ويظهر القديسان ثيودور وﭽورﭺ واقفين يرتديان تونيك وفوقه خلاميس (وهو زي فوقي خاص بالمحاربين الرومان وعادة ما تم اقتباسه في الفن المسيحي ليرتديه الشهداء والقديسين) من الحرير ويمسكون بصليب الشهيد او ما يعرف أيضا بالصليب اللاتيني (الصليب اللاتيني هو الذي صلب عليه المسيح وهو أيضًا الصليب الذي صلب عليه معظم الشهداء الاولين كالقديس أنطون )

Picture1.png ٧
السيدة العذراء والمسيح الطفل وعلى جانبيها القديس تيودور والقديس جورج ، واثنان من الملائكه فى خلفية المشهد. كاتدرائية سانت كاترين بسيناء

يقف كل من القديسين في مواجهة الُمشاهد، وعلى الرغم من الواقعية الشديدة في تصوير العذراء والطفل، ومن حرية الحركة التي صور بها المسيح الطفل؛ فقد جاء تصوير القديسان جامدًا لا يتسم بالحيوية. أما الملائكة فقد ظهرت سيطرة الأسلوب الكلاسيكي في تصويرهم واستخدام الأسلوب الانطباعي Impressionism  في التصوير، وقد احتلوا بعدًا آخر في التصوير، كما أن حركتهم وملامحهم وأرديتهم البيضاء تناسبت مع كونهم ملائكة.

وفي القلاية رقم 28 في دير أبولو في باويط بأسيوط،  نجد وضعية أخرى لتصوير العذراء والمسيح الطفل على حنية (الحنية هي عنصر معماري تم الاعتماد عليه في بناء الكنائس لاسيما المصرية)، حيث تظهر السيدة العذراء جالسة أيضًا على مقعد وكأنها تجلس على العرش، ولكنها هذه المرة لا تُرضع المسيح ولكنها تحمل شكل ماندرولا او ميدالية مصور بداخلها السيد المسيح طفلاً، ويقف مرتديًا التونيك، والباليوم تنسدل على الكتف الأيمن وتحيط برأسه الهالة داخلها صليب، ويشير بيده اليمنى ناحية السيدة العذراء حول رأسه كتب اختصار اسمه IC XP، أما العذراء فكانت برداءها الأرجواني ذو الثنيات المتعددة والعباءة التي تغطي رأسها وتحيط برأسها الهالة المقدسة. وعلى الجانب الأيمن والأيسر هناك سيدتان تجسدان اثنان من الملائكة المجنحة ولهن شعر أشقر وتحيط برؤوسهن الهالة المقدسة ويرتدين رداءً أبيض مُزين بزخارف ذهبية، تحمل كل منهن في يدها صندوق ذهبي صغير، وفي اليد الأخرى تحمل كل منهن حقيبة أو صندوق يقمن بتقديمه للعذراء وينحنين أمامها، ويحيط الشكل بأكمله زخارف نباتية من فروع أشجار ثم أشكال هندسية عبارة عن أشكال مثلثة. وهو مشهد لم يتكرر خارج باويط، إذ كان من المعتاد تصوير العذراء تحمل المسيح الطفل جالسًا على أحد فخذيها وليس واقفًا داخل إطار ماندرولا أو ميدالية، وهوما تشابه مع الأيقونات السابقة في جلوس العذراء على العرش وإحاطتها بالملائكة، مما يرجح أن هذه اللوحة لم تنفذ بأيدي فنان قبطي، أو ربما هو فنان قبطي تدرب على يد فنانيين بيزنطيين.

Picture1.png ٨
تصوير العذراء والمسيح الطفل، دير ابولو- باويط.

وقد تزامن الفن الديني مع ظهور المسيحية، وتشهد الكتاكومب الرومانية على ذلك منذ القرن الاول الميلادي حيث صورت داخلها مشاهد من العهد القديم ومشاهد رمزية للمسيح والعذراء في ظل الاضطهادات التي وجهت ضد من اعتنقوا المسيحية. ولكونها ملهمة للفنانين عبر العصور، قد ظل الاهتمام قائمًا بتصوير السيدة العذراء والمسيح الطفل في الفن القبطي منذ ظهور المسيحية وعبر القرون وصولا الى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر علي يد العديد من الفنانين امثال ابراهيم الناسخ ويوحنا الارمني ووصولا الى رائد الفن القبطي المعاصر د. ايزاك فانوس

Dr. Doaa

دعاء بهي الدين، دكتوراه الآثار القبطية والبيزنطية، جامعة الإسكندرية، وهي باحث اول بمكتبة الإسكندرية ومحاضرة بجامعة دمنهور. د. بهي الدين عضوة في العديد من المؤسسات العلمية والثقافية، ومنها الجمعية الدولية لعلماء القبطيات والاتحاد العام للآثاريين العرب والمجلس الدولي للمتاحف.

** إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني

 
 

أضف تعليق