أم تشارك تجربتها مع طفلتها ذات إضطراب طيف التوحد

الإثنين ٧ سبتمبر ٢٠٢٠

انا سيده مصرية ، اسمي مش مهم، عمري ٣٨ سنه، عائلتي تنتمي للطبقة المتوسطة، تفوقت في دراستي في كل المراحل التعليمية ، عقب تخرجي عينت معيده، اتجوزت و خلفت بنت وحيده و بعدها مباشرة بعثت لامريكا للحصول على درجة الدكتوراه، لما كملت بنتي سنه و نص لاحظت تأخر في نموها خاصة الفهم و المشي و الكلام ، بعد عرضها على اخصائيين و ملاحظتها لشهور تبين انها مصابه باضطراب طيف التوحد ،كل اللي كنت اعرفه في الوقت دا عن التوحد انه مجرد خلل سلوكي ، و برغم الصدمة الا اني آمنت ان الموضوع مسالة وقت و مع مجهود زياده شوية هيكون في تحسن. 

عدت سنين و الامر بيزيد تعقيد، الكلمتين اللي بنتي بتنطقهم من وقت للتاني بعد مجهود جبار بيختفوا، ولصعوبة التواصل بتصرخ لساعات متواصله، في فترات كانت بتشعر بالم في الاسنان و اللثه، صعوبة في الهضم و الاخراج، بكاء هستيري لما ندخل اي مكان مقفول او زحمه ، كتير بتلحأ للعنف بتؤذي نفسها و تؤذينا، ممكن يوميا اقضي ساعات ماسكة ايديها و بحاول اسيطر على جسمها لمجرد اني احميها من اذية نفسها، كنت كتير اشعر بالاحراج اني اخرج في اي مكان عشان اتجنب نوبات العصبية، كتير كانت تترمي على الارض و تكسر اي حاجة قريبه منها و تضربني بكل عزمها.

اضطرابات النوم كانت بتحرمنا من الراحة تماما ، لوقت طويل  ماكناش ننام اكثر من ٤ الى ٥ ساعات يوميا، خصوصا اننا في غربه و توفير حد يساعد في خدمة بنتي مكلف جدا، استمر الوضع كده سنين كل ما تكبر جسمها يكبر و احتياجاتها تتعقد و السيطره عليها بتبقى اصعب،. زي اغلب امهات اطفال التوحد كنت دائما شايفه اني لا املك رفاهية الانهيار ، وضعت كل مشاعر الحزن و العجز و الحيره في صلاتي و كنت دائما بدور على طرق للخروج من الدوامه المرهقة.

 اشتركت في جروب على الفيسبوك خاص لامهات اطفال التوحد و قرأت ابحاث كتير، على قد ما قدرت، جربت طرق عملية لمساعدة بنتي و ان ساعدت في علاج بعض الاعراض الا ان الاعراض الاصعب و المعاناة الاكبرلم تختفي، أُنهكت جسديا و عصبيا و نفسيا، طول الوقت -تقريبا يوميا- كنت بسمع كلام من قرايبي و اصدقائي من نوعية “البنت محتاجة تهتمي بيها اكتر” ، “انت مش عايزه تخاويها ليه؟” ، “انت اكيد مش فاضيالها”، “اكيد سبتي ليها التليفون كتير” ، “انت مش بتتكلمي معاها كتير”. 

مع الوقت اكتشفت ان معاناتي في التواصل مع الناس اللي معندهمش وعي كافي بالتوحد هي نفس معاناة امهات تانيه عندهم نفس ظروفي، و ان حالة التبرير و الدفاع الدائم هو واقع حياتنا و لا مفر منه، لمواجهة هذا الكم الهائل من الضغط و القهر مكانش في غير طريق من اتنين ، في امهات اختارت تنسحب من الاوساط الاجتماعية، انزوت و اتنست، و في امهات اختارت تقاوح و تشرح و تنشر الوعي. بالنسبة لي انا شخصيا، ومع تكرار حوادث التنمر على بنتي و علينا فضلت الاختيار الاول (الانسحاب من كل الدواير الاجتماعية)، و بكده بقيت محاصره بالوحده و الغربة و المرض و الاحباط، كانت الاعياد زي باقي ايام السنه، لسنين متجمعناش في اي مناسبات و كانت حياتي كلها لبنتي و و بخطف ساعات معدودة لدراستي. 

استمر هذا الوضع لغاية يوم كان لي لقاء مع مشرفة الرساله – بروفيسور أمريكية قليلة الكلام جدا – و اللي كانت تراقب المشهد من بعيد دون تعليق، قربت مني في لطف شديد و غير معهود و قالتلي : “اعلم تماما اللي بتمري بيه و اسجل احترامي و اعجابي الشديد بمثابرتك و اؤمن ان لديك القوه الكافيه لتتخطي كل صعب، مش بس كده انت هتكوني ملهمه لآخرين.” 

قالت الكلام دا و كأنها القت في قلبي تعويذه، فجأة وقعت الاسلحة اللي شايلاها طول الوقت لزوم الدفاع عن نفسي و شرح ظروفي لمن يهتم و من لا يهتم، بكيت زي الاطفال بكاء تحرير من وهم التقصير و العجز، غريبة اني اسمع الكلام دا من اقل الاشخاص معرفة بي و لكن اكتشفت انها اكثرهم ايمانا بي. اليوم دا فهمت ان المشكلة الاكبر من المرض هو الاستسلام لتحكم الناس في رضانا عن نفسنا، من وقتها حياتي انا و بنتي اتغيرت جذريا. اتطوعت في مدرسة لذوى الاحتياجات الخاصة و عملت علاقات هايله مع متخصصين و امهات شبهي،  بنتشارك يوميا اصغر التفاصيل و نتبادل الخبرات، ننظم رحلات و نحضر تدريبات، اتعلمت اني متكسفش احط حدود لتدخل الناس في تعاملي مع بنتي مهما بلغ قربهم ، خصصت وقت لنفسي للرياضة و الكتابة و الرسم، اخيرا اخدت الدكتوراه و رجعت للتدريس الجامعي، بقيت اشترك في حملات توعية للتوحد و لمست ازاي الناس بتغير سلوكياتها تدريجيا.

 بنتي اتحسنت كتير لما انا اتحسنت، لما رجعت احب الحياة.

** إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني


أضف تعليق