«هي والعنف» كيف تحول الجاني إلى مظلوم؟ | سلمى محمود

٨ ديسمبر ٢٠٢١
سلمي محمود

تجلس «هي» متكئة على أريكتها داخل غرفتها تُحدق في الفراغ من حولها بنظرات يغلب عليها الحزن والخوف مجتمعين، تغزو ملامح وجهها مشاعر الصدمة والحيرة معًا وإن دققت النظر أكثر ستلمح تلك الدمعة الصغيرة التي أفلتت من عينيها سهوًا لتسقط على حافتي وجنتيها دون أن تشعر، داخل عقلها تدور مئات التساؤلات التي لا إجابة لها، بينما تعبث بها الكثير من الأفكار السوداوية في مشهد لم يعد غريبًا عليها إنما أصبح جزءًا من معاناتها اليومية!

أفاقت «هي» من غفوتها فجأة لتتجه صوب المِرْآة كما اعتادت أن تفعل، كانت المِرْآة أشبه بآلة زمنية تأخذها في رحلة مطولة نحو ذكريات الماضي الحزين ولحظات الحاضر الأليمة واحدة تلو الأخرى وكأنها تشاهد فيلمًا مأساويًا لا يحضره سواها.

خلال رحلتها تقابل «هي» التي تمقتها! ربما لأنها تذكرها بكل مآسيها وتُلقي عليها الأسئلة الأصعب التي لن تُريحها إجاباتها، تعتقد في كل مرة إنها تستطيع البوح أمامها بما لا تستطيع أمام غيرها لتنزع عن جسدها غطاء الخوف والألم، ولكنها بمجرد التقاء العينين تنهار ربما لأنها تعلم أن الحوار الذي سيبدأ لن يُحسن حالتها إنما سيزيدها سوءًا أكثر من ذي قبل.

تُذكرها ذاتها المحطمة بمشاهد مأسوية يومية حُفرت بداخلها لسنوات وأبى عقلها أن يطويها في غياهب النسيان، تُعيد عليها كل الأيام التي ابتسمت فيها بدلاً أن تنهار وتصرخ بأعلى صوتها، كل الليالي التي قضتها ساهرة، متسائلة إن كانت هي المخطئة وهي تعلم أنها ليست كذلك، كل مرة عُنفت فيها وفقدت معها جزءًا لن يعود من روحها، كل مرة اعتقدت إنها محت أثار العنف بمساحيق التجميل لكن جرحها الداخلي كان أسوأ وأعمق، كل مرة سامحت على انتهاك روجها وجسدها اعتقادًا منها إنها الأخيرة لكنها أبدًا لم تكن.

كل جزء في انعكاس صورتها يذكرها بمأساة أخفتها كثيرًا حتى اعتقدت أنها نسيتها ولكن هيهات!، عيناها الزرقاوين يذكراها بتلك الكدمة التي قبعت طويلاً أسفل عينيها ولم تنجح محاولات مساحيق التجميل في إخفائها، تلك الكدمة التي ظلت على إثرها ساهرة لساعات طويلة متسائلة عن أي خطأ اقترفت؟، هل تفوهت بكلمة خاطئة؟، هل ارتفع صوتها قليلاً؟، كل ما تذكره أنها كانت تحادثه بصوت غير مسموع أقرب للهمس لتطلب منه شراء بعض احتياجات للمنزل ثم فجأة تلقت منه ضربة طرحتها أرضًا، ولكنه أعتذر! فهو بالتأكيد لم يكن يقصد إيذائها وربما هي مَن استفزته وأجبرته على اللجوء للعنف معها، هكذا أقنعتها أمها ولهذا سامحته هي.

شعرها دومًا يذكرها بأمها، كونه يذكرها بتلك العلقة الساخنة التي كانت من نصيبها عندما تأخرت قليلاً رفقة صديقاتها، حينها تلقت عدة صفعات متتالية على وجهها واتهامات لم تفهمها ولكنها كانت قاسية على مسامعها، ثم أنهت والدتها فقرة التعذيب بشد شعرها بقسوة رأته بعدها ينهار على أرضية الغرفة في انكسار يشبه انكسار روحها، لم تكرهها بسبب ذلك لأنها بطريقة ما أقنعتنها أن كل هذا حدث لمصلحتها ويدافع الخوف عليها واقتنعت «هي» بذلك فهي أمها وبالتأكيد لم تقصد إيذائها.

تمسك قلم الحواجب لترسم حاجبيها، تترك القلم للحظات ثم تتذكر الحادثة، هنا حصلت على أول غرز في حياتها، تتذكر حينما كان أخيها يشاهد المباراة وأتت هي لتطلب منه حمل بعض الأشياء الثقيلة معها والدفع بها داخل المنزل لأنها لا تستطيع حملها بمفردها لكنه بدلا من الاستجابة لها قذفها بشيء ثقيل انفتح حاجبها على إثره وسالت الدماء في كل مكان، بكت وانهارت أما هو فلم يعرها اهتمام، ثم بعد انتهاء المباراة اعتذر وقبلت «هي» اعتذاره فربما كان خطئها تلك المرة أيضًا!

تشتم رائحة الدماء وتتذكر تلك الليلة المشؤمة التي اصطحبها فيها أبيها إلى عيادة قديمة تبدو أشبه بكهف مظلم مخيف، مازالت تتذكر المشهد بأكمله، رجل ضخم الجثة يحمل في يده «موس» ثم يشد يديها نحو غرفة مظلمة ثم يوجه الموس إلى المنطقة الحساسة في جسدها لتنفجر الدماء منها وتشعر معها بألم لا يوصف مازالت تبعاته تطاردها حتى الأن، لم يرحم أبيها ضعفها، لم يستجب لتوسلاتها إنما تركها تواجه تلك التجربة القاسية وحدها لكنه كافأها بعد فعلته تلك بقطعة حلوى كبيرة أكلتها ثم مسحت دموعها وسامحته!

قسمات وجهها تذكرها بصديقاتها، تتذكر كلماتهنٌ القاسية، سخريتهنٌ من شكلها، ملابسها وكل شيء، كان حديثهنّ أشبه بالسهام الحارقة التي كادت أن تخترق روحها وبسببه قضت أوقاتًا طويلة تبكي وتلعن حظها السيء، لكنهن صديقاتها ربما كن فقط يمزحن أو لم يقصدن الإساءة هكذا اقتنعت وأبقت على صداقتهن!

تلمس «هي» ذراعها لتتذكر معها لحظة لن تنساها وهي أول محاولة تحرش، كانت صغيرة آنَذاك لكنها مازالت تتذكر تلك اللحظة التي حاول شخص فيها انتهاك جسدها، حاولت حينها الابتعاد عنه لكنه التصق بها أكثر وعندما أنتفضت في وجهه وواجهته أنكر كل شيء بل وأدعى أنها مَن كانت تحاول التحرش به!، الغريب آنَذاك هو موقف مَن حولها هؤلاء الذين ألقوا اللوم عليها بحجة “ضيق ملابسها” وتركوه ينجو بفعلته، تتذكر دومًا حديثهم وتلوم نفسها، ربما كانوا محقين!

هذه ليست قصة واقعية ولكنها ليست أيضًا قصة مختلقة من وحي خيالي، «فهي» ربما تكون انا أو أنتِ، كلنا تعرضنا إلى العنف بمختلف أشكاله مرة واحدة على الأقل في حياتنا، منا مَن أخذت موقفًا صارمًا وتصدت إلى العنف المُمارس ضدها وأوقفت المُعنِّف عن أفعاله ومنا مَن حذونّ حذو صديقتنا تلك ظللن يسامحنّ ويسوقنّ الأعذار لهم بل ويلومنّ أنفسهنّ وكأنهنّ الجاني وليس المجني عليه، لم يتوقف الأمر على إيذائهن نفسيًا وجسديًا فقط بل خسرنّ رفقة ذلك أنفسهنّ، ثقتهنّ بأنفسهنّ وكل شيء!.

المجتمع ساهم في ترسيخ مبدأ التماس الأعذار للمُعنِّف ولوم الضحية؟ نعم، ربما لم يملكنّ قرارهنّ واستجبنّ للأمر الواقع وحاولن تقبله ليخففنّ من حدة وسوء الأمر؟ نعم، ربما لم يعرفن حقوقهن من البداية واعتقدن أن «العنف» شيئًا عاديًا ودائمً ما يكون هناك سببًا له! نعم، ربما وربما لكن النتيجة في النهاية واحدة «العنف جريمة ولا مبرر للعنف مهما كانت الظروف وكل شيء».

** إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني

أضف تعليق