نهار قرمزي | قصة قصيرة د. عبير الجمل

٢١ يناير ٢٠٢٢
د. عبير الجمل

 
نهار قرمزي 

وسط تلال من الكراكيب كانت قد جمعتها لفرزها وتوزيعها على الجمعيات الخيرية وجدته. لم تكن تعلم بوجوده، ولم تكن تبحث عن شيء بعينه، لكنه اللون الذي جذبها. لمعت عيناها ببريق خفت منذ أعوام وخفق قلبها بنبضات متسارعة.

 هي لا تتذكر أنها اشترته، ربما اشترته احدى بناتها ولم تستخدمه.  أخذت تقلب فيه، حزام ذهبي رقيق وأزرار لامعة، مازالت العلامة التجارية تتدلي منه ممهورة بالسعر. أخذته وخرجت من الغرفة للشرفة متناسية مهمة الفرز الثقيلة على قلبها. كانت قد عزمت على الانتهاء من تلك الغرفة قبل الصباح حتى وان كلفها الأمر سهر الليل بطوله. سيحضر عمال النقل للبيت الجديد صباحًا وهي لن تتمكن من النوم على أيه حال مادام عليها مهمة قررت انهائها.

خيوط الشمس الأولي لم تبزغ بعد. ستصلي الفجر وتستريح قليلا في الشرفة وكومة الملابس لن تهرب، ستظل منتظره تخرج لها السنة متدليه في صورة فرده جورب او حزام فستان او كم بلوزة خرج ليذكرها ان عليها الانتهاء قبل الصباح.


تراه اللون الأحمر القرمزي الذي تعشقه هو ما جعلها تجذبه وتحرره من تحت تل الملابس المتشابكة؟  أم أن عقلها الباطن يحاول أن يذكرها أن عليها ايضا أن تحضر محاضرتها لهذا الأسبوع عن رواية الحرف القرمزي وألا تغرق في تفاصيل الانتقال لمنزل جديد فتهمل طلابها! 

في الشرفة جلست على كرسي بلاستيكي حال لونه وتآكلت أطرافه بفعل الشمس، وضعت الكائن القرمزي على الطاولة المغبرة وفتحت اليوتيوب فكان أول فيديو يظهر لها هو تأمل لشاكرا الجذر القرمزية! ” هو شكله نهار قرمزي بجد!” همست لنفسها.

يعرفها صديقها الافتراضي “يوتيوب” ذو الأيقونة الحمراء أكثر من أي من أصدقائها أو أفراد أسرتها، يفهمها ويقرأ أفكارها ويظهر لها فيديوهات تناسب حالتها ومزاجها. يعرف أن عليه دائما ألا ينسي اقتراح فيديو لأغاني فيروز في الصباح، تأملات وتوكيديات وقراء قرآن جدد أو قدامي على مدار اليوم، وفيديوهات عن الصحة وكل جديد في علاج الفايبروماليجيا.

أما أن يصفعها يوتيوبها الحبيب باللون القرمزي لشاكرا الجذر المنغلقة بالضبة والمفتاح دونا عن كل أخواتها الستة فلابد انها “علامة يا مارد”. هي ليست صدفه بلا شك. ” خلاص اهدي كده واقعدي اعملي التأمل وركزي في اللون الأحمر، الدنيا مش هتطير يعني، سيبي نفسك لصوت لويز هاي الرايق لعل وعسى الشاكرا المسدودة تفتح وتبقي فاتحة خير علي الباقيين. يا
فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم.” همست لنفسها.

ضغطت علامة التشغيل واغمضت عينيها.

تقافزت الأفكار واللقطات في رأسها، اختلط الحاضر والماضي في تشابك عجيب.

لا بأس، ستترك كل فكرة حرة طليقة تعبث في رأسها حتى تختفي من تلقاء نفسها فكلما حاولنا أن نقاوم الفكرة يزيد تسلطها، هذا ما تنصح به هاي وهي تثق في حكمتها وتقرأ كتبها.

فجأة ظهرت البنوتة ذات الأعوام الخمس في فستان الكروشية الأحمر الذي صنعته لها أمها وكانت تبدو فيه كدبدوبة صغيرة. ابتسمت لنفسها حتى سمعت صوت تعليق خالتها الساخر “ضحكوا علي الأسمر لبسوه أحمر”. 

أليس من المفترض ان تعليقا كهذا كفيل بأن تكره كل ما هو أحمر في الحياة؟

ولكن ذلك لم يحدث، هي فعلا تحب اللون الأحمر، تعشق درجات معينه منه وتعتقد انها تليق ببشرتها الخمرية. ربما كانت طنط أمينه مخطئه في اعتقادها ان الاحمر لون يليق بالبيضاوات فقط، لكنها مازالت تتذكر وقع الكلمات عليها. أحست بكرة ساخنة تتكون في حلقها فأخذت تبلع ريقها لعلها تذوب.  كيف لطفله دون الخامسة ان تفهم ان خالتها التي تحبها لا تراها جميله لمجرد ارتدائها اللون الأحمر. تنزلق الكرة ساخنة داخل بلعومها وتحس بسهد في صدرها حتى تستقر داخل معدتها. تتذكر كيف وكزت امها خالتها ساعتها حتى لا تتمادي في الكلام، وحثتها أن تلحق ببنات خالتها لتلعبن في غرفتهن. سمعت امها تلوم خالتها: انت مش متخيله هي حساسة قد ايه! ماينفعش كده يا أمينه!

استقرت الغصة في معدتها حتى عادت مع امها وأخيها من الزيارة وبعد ان خلعت الفستان الأحمر ولبست البيجاما أدركت ان خالتها كانت علي حق. هي فعلا دبدوبه وسمراء ولن ترتدى لونا لا يليق سوى بالشقراوات مرةً أخري. هي لم تخلق بيضاء كأمها وخالتها وعليها أن تتذكر ذلك حتى لا تكون مادة للسخرية.

ترى لماذا اختارت جماعة “البيوريتانز” المتشددة اللون الأحمر ليوصموا به بطلة الرواية “إستر برين” مدي الحياة بلا رحمة أو غفران؟ عاقبوها بألا تخلع عنها الحرف الأول من Adulteress مطرزا بخيوط حمراء حتى بات جزءً منها. كان عليها أن تحمل عارها وتتجول به حتى لا تخطئها الأعين أو يتعامل معا الآخرون. كان عليها أن تفتدي مكانة ومركز حبيبها القس الذي أبي الاعتراف بابنته وبات يعذب نفسه خفية وترتدي هي العار مدي الحياة. يا له من مجتمع متدين وعادل.

“مالك يا بنتي قلبتيها دراما ليه؟” همست لنفسها. “ماكانش جاكيت أحمر لقتيه في وسط الهدوم المركونة في البلاكار من سنين. ارميه بقه وخلصي اليوم ده، او حتى كملي التأمل وبطلي سرحان في القديم والجديد”.

عليها أن تستمع لصوت العقل وتنجز المهمة. لو توقفت عند كل قطعه ملابس تسرد تاريخها فلن تنقل لمنزل جديد، ستبقي مع ذكرياتها وتقلب مواجعها.

ربما كانت قصة ذات الرداء الاحمر هي السبب في حبها للون الناري. كانت تعشق القصة وتعيد قراءتها متأملة فستان وغطاء رأس البطلة باللون الأحمر، الفستان يشبه لحد كبير فستانها الكروشيه الذي ارتدته مرة واحدة، لكن بطلة القصة نحيلة وجميلة. 

كبرت وصارت تحرص على ان يحوي دولابها قطعة او قطعتين بدرجة الاحمر التي تفضلها، عندما تستثمر في شراء حقيبة سينييه مفتخرة، تختارها باللون الأحمر، عكس كل النساء الاتي تفضلن الحقائب السوداء.  حقيبتها الحمراء الفيرنيه دائما ما تجذب الانتباه والتعليق، فهل يعتبر هذا مقياسا لشطارتها في الاختيار؟ ما ان دخلت ورشه كتابه كانت تديرها شاعره أسكتلندية حتى علقت ان حقيبتها تذكرها بفيلم ميريل ستريب The Devil Wears Prada    مما لفت نظر باقي الحضور اليها.  هل اللون الأحمر حقا لون شيطاني؟ لون الجحيم؟ لون الرغبة؟ لون قلوب العذراوات التي تعتصر كقلوب حبات الطماطم اللينة لصنع الصلصة؟  يا له من صباح باللون الأحمر!  تنهال عليها الأفكار والصور فلا تميز صوت لويز هاي ولا موسيقي التأمل.

شرائط حمراء تنهي ضفيرتيها السميكتين يوم العيد، فرشاة اسنان حمراء في كل حمام وبروش علي شكل حبات الكريز الحمراء، كشاكيل حمراء وأقلام حمراء تملأ حقائب يدها لتذكرها بأوراق عليها أن تصححها، لماذا لا يكون التصحيح بالأخضر مثلا، هل ستأبي الأخطاء أن تصحح بغير الأحمر؟

حتى عشقها للأبيض مع الاسود لم يمنعها من وضع قطعة اكسسوار صغيرة من الأحمر هنا وهناك: احمر الشفاه باللون الأحمر، خداديه حمراء تنعش اجواء الليفينج رووم أو أيشارب حريري تربطه حول العنق قبل أن تعتنق الحجاب. لسبب لا تفهمه هي لا ترتدي إيشاربات حمراء،

هل معايره خالتها الكلاسيكية وحزنها كطفلة لنقد أحب الشخصيات لها دخل بذلك؟
لا تدري….

ما الذى دهاها ذلك الصباح، لماذا انطلقت كالمحمومة من الشرفة وفي يدها الجاكيت الأحمر القديم، الجديد تجمع كل شيء باللون الاحمر من الدولاب، والارائك والمطبخ وترمي بها في قاع أكياس بلاستيكية سوداء؟ هل تلبسها جني الاحمر؟ تتحرك كأنها آلة، يختلط في اذنيها صوت خالتها الساخر ” ضحكوا ع الأسمر لبسوه أحمر” مع صوت ابنها على الفيس تايم من أوروبا “احنا بقينا “red zone” تاني ياماما. “

الله يلعن الكورونا وسنينها، والأحمر ودرجاته.

ترمي بجسدها المتعب على أريكة بعد أن رصت الأكياس السوداء أمامها كجثث تنتظر صلاة الجنازة قبل أن تواري التراب. تشعر أنها على وشك التخفف من ميراث ثقيل، كأنها ترثي تاريخا طويلا من حب اللون الأحمر.  تطلب رقم الجمعية الخيرية وتطلب أن يصلها مندوب اليوم لجمع التبرعات الحمراء.

تفتح جهاز الكمبيوتر لتجهز عرض الباور بوينت للمحاضرة، تختار للشريحة الافتتاحية صورة للحرف A باللون الأحمر مطرزة على قماش أبيض أنزلتها من صور جوجل.  غازل اللون القرمزي عينها فقامت تنبش في الأكياس السوداء.

أخرجت الجاكيت وانطلقت لطاولة الكي، كوته وعلقته على شماعة.  سترتديه لمحاضرة الغد التي لم تحضرها بعد.

** إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني
                
 

أضف تعليق