أنت دنيا .. أحلى دنيا | مراجعة فيلم «دنيا» ورحلة التعافي من الختان

٦ فبراير ٢٠٢٣
كتبت – رضوي حسني

تنبيه: هذه المراجعة تحتوي على معلومات تكشف أحداث وحبكة الفيلم.

مين يجِز بإيده الورد
مين يقص قَصد جناح عصفور
مين يجرّى دموع ع الخد
مين يطفي بقساوة شعاع نور
مين إيده تفرح بالدم
مين بجرح عمره ما يوم يتلم
ومين يجِز بإيده الورد

تلك الكلمات كتبتها الشاعرة كوثر مصطفى، وغناها محمد منير ضمن أحداث فيلم دنيا؛ لوصف حالة  فتاة مصرية متمردة على القيود تُدعى دنيا لم يحالفها الحظ لتنجو بنفسها من عملية الختان. لتبدأ رحلتها الطويلة مع اكتشاف جسدها بدءً من الشعور نحوه بالرهبة وصولًا إلى حالة من ارتقاء الروح عندما تدرك أخيرًا أن الختان ليس نهاية الفتاة بل هو مشوار طويل تُخطيه داخل أزقة القيود المجتمعية إلى أن تتعافى وتدرك أن جسدها لا يمكن أن ينتهِ أو يُقضى عليه، وأن لذاتها مكمنها العقل، والروح، أما الجسد فهو رد الفعل، وليس صاحبه.

دنيا هي شابة صعيدية من محافظة الأقصر في الثالثة والعشرين من عمرها تدرس الشعر، وتهوى الرقص الذي ورثت حبه عن والدتها التي كانت واحدة من أفضل فنانات الرقص في مصر. نشأت دنيا بين عائلة والدها الصعيدية لا تعرف عن والدتها سوى ماضيها، وبعض من أصحابها، ومنديلها الأحمر الذي تلفه دنيا حول معصمها، ولا يفارقها أينما تذهب وتحل.

وخلال أحداث الفيلم تحكي دنيا أن بسبب نشأتها الصعيدية في بيت والدها الراحل خضعت لعملية الختان على يد القابلة التي أحضرتها عمتها. تلك العمة التي كثيرًا ما تحاول أن تبعد عن رأس دنيا أي محاولة للتقرب من والدتها ناعتة إياها بالراقصة التي جلبت لهم الوصم والعار، كما صورت زواج شقيقها – والد دنيا – منها بالبقعة السوداء التي لوثت جلبابه الأبيض، ولم تمحوها السنين. 

تبدأ أحداث الفيلم بدنيا وهي تقف أمام لجنة من المحكمين في مسابقة دولية للرقص تمثل فيها الفائزات مصر في الخارج. وبينما تقف دنيا تقرأ عليهم احدى قصائد الشعر بجسد ثابت خاوٍ من الحياة، يطلب منها المحكمون أن تعيش اللحظة وتتعايش مع الكلمات الشعرية التي تلقيها عليهم، وتعبر عن مضمونها بالحركات الراقصة، وأن تتمايل بجسدها كيفما تشعر بتلك الكلمات، فهي هنا في مسابقة للرقص؛ ولكن تفاجئهم دنيا بردة فعلها المعتادة عندما تعجز عن التعبير بجسدها عما تشعر، فتجلس على الأرض وهي تضم ساقيها إلى صدرها في وضع الجنين، وتخبرهم بأنها لا تعرف شكل جسدها، ولم يأخذها الفضول يوما للنظر إليه، وأن المرة الوحيدة التي شاهدت فيها جسد أنثى كان باحدى الأفلام الفرنسية.

وعلى عكس المتوقع يقع الاختيار على دنيا ضمن الفائزات في المسابقة، وتقرر بعدها خوض رحلة اكتشاف الذات من خلال تعلم فنون الرقص على يد أحد المحترفين، والذي يشجع دنيا على أن تصبح راقصة محترفة كوالدتها دون أن تتأثر بها، بل أن تعبر عن نفسها هي كدنيا وليست كابنة الأسطى أسمى أشهر راقصات مصر.

وخلال رحلة اكتشاف الذات، والتعافي من آثار الختان، يسلط الفيلم الضوء على بعض الشخصيات الأساسية في حياة دنيا. فبخلاف عمتها، والجيران الذين يمثلون قيود المجتمع، هناك حبيبها ممدوح الذي لا يكف عن إخبارها بمدى حبه لها في الوقت الذي تبادله هي نفس الشعور؛ ولكن بحذر. فلغة ممدوح في الحب هي اللمس والتقارب الجسدي، وهو ما يشكل رهبة عند دنيا، فنراها تخشى الإقدام على محاولة التجاوب معه، ولا تعرف حتى كيف تتغلب على شعورها بالنفور حيال ذلك الأمر.

كما نلاحظ خلال مشاهدها مع ممدوح كيف تتمرد دنيا على تقاليد المجتمع، وتواجه همزات ولمزات الجيران ضدها، وتقف لهم بالمرصاد عندما يحاولون ممارسة تحكمات نظامهم الأبوي عليها؛ لكونها فتاة مستقلة تعيش في القاهرة الواسعة بمفردها. يفشل ممدوح في استمالة دنيا جسديا؛ بسبب رفضها الدائم للتقرب منه متحججة بكونهما غير متزوجين؛ ولكن في حقيقة الأمر هي تخشى حتى مجرد التجربة.

وأخيرا يعرض عليها الزواج، وتقبل دنيا أن تعطي لنفسها فرصة لتحاول أن تكتشف جسدها معه كأنثى خصوصا وأنها الآن قد قطعت شوطًا لا بأس به في رحلة البحث عن الذات، وسمو الروح؛ ولكن الطريق ما زال في بدايته.

وبعد الزواج تكتشف دنيا أنها مجرد جسد فقط لا تشعر باللذة، ومشاعر النشوة، كما يتهمها ممدوح بالبرود؛ لتقرر أخيرا أن تتركه وتعطي لنفسها فرصة جديدة للمضي قدما في رحلة استمرار البحث عن نفسها، والتعرف على جسدها، خصوصا مع فرض ممدوح لبعض القيود على دنيا كحرمانها من الرقص التي تحيا به وتهواه ويعبر عن هويتها المفقودة بين قيود المجتمع.

وعلى عكس ممدوح هناك من يعشق دنيا روحا وجسدا معا، ويجد فيها ما يميزها ويجعلها دنيا غير أي دنيا. ذلك أستاذها الجامعي د. بشير الذي يعرّف دنيا على أنواع الحب المتعددة في أحد دروسه لها، ويطبق منها على علاقته بدنيا حب الاكتمال. فيكتمل بشير بدنيا، وهي تكتمل به. فهو الذي يخبرها كم هي جميلة، وكاملة، ومكتملة، وكم هو يحبها ويحتاج لحبها، ويبصر من خلالها النور. د. بشير الذي يتمرد على قيود المجتمع كما تتمرد دنيا عليها حتى مع تعرضه لحادث يتسبب في ضعف بصره إلا أنه لا يستسلم، ويظل في رحلة بحثه عن النور كما تبحث دنيا عن روحها. وكأن النور بالنسبة له هو روح دنيا التي تهواه. ففي اللحظة التي يتحسن فيها بصره حتى ولو بنسبة ضئيلة تدرك فيها دنيا أخيرا حقيقة ذاتها. وكأن ذلك علامة على حتمية بلوغ شعاع النور مهما فُرض الظلام 

وفي بعض مشاهد الفيلم نجد الدكتور بشير يحاول أن يبصر الضوء من حوله في كل مكان حتى أنه يذهب إلى ذلك المحترف الذي يعلم دنيا الرقص كي يعلمه هو أيضا كيف يمشي دون عصاه، فيخبره معلم الرقص أن يترك عصاه ويمسك بأحد الحبال الطويلة ويتتبع أثره، وكذلك يدربه على رؤية بصيص الضوء من حوله، ويستمر بشير في التدرب إلى أن يتمكن بالفعل من رؤية الضوء بشكل أفضل، وقراءة الكتب باستخدام العدسة المكبرة لا سيما وأن تلك الكتب هي ما تحضرها دنيا له. وهذه دلالة على تقاربهما الفكري، وعمق علاقتهما ببعضهما البعض، وتأثير كل منهما في حياة الآخر. فهي التي يرى من خلالها العالم، وهو ما تهواه روحها.

وفي أحد المشاهد التي يحاول فيها د. بشير إبصار الضوء من حوله تقع عينيه على دنيا، وكأن ذلك علامة على الضوء الذي تبعثه دنيا في حياة بشير. أما عنايات، وأروى صديقتا دنيا تشكلان حالة من التفاهم، والتكامل مع اختلاف طبيعة حياة كل منهما، وحكاياتهما مع الختان. فعنايات سيدة متزوجة وأم لفتاة صغيرة، تعيش مع زوجها وابنتها وحماتها في بيت واحد. عنايات تمثل الشريحة الواسعة من السيدات التي حرمهن المجتمع وتقاليده من الإحساس بجسدهن كإناث بفعل الختان، فأصبحن النموذج السائد الذي لا يشعر بجسده ولكنه يفتعل الشعور باللذة، والرغبة إلى أن يعيشها فعلا، أو ربما لا! ومن واقع خبرة عنايات تعطي بعض النصائح الزوجية لدنيا أثناء فترة زواجها من ممدوح. أما أروى فهي سيدة متحررة كُتب لها النجاة من الختان، ولا تخشى من قيود المجتمع، فقط تعيش حياتها بحرية، وتشجع دنيا على ألا تتخلى عن مبادئها، وحريتها عند زواجها من ممدوح. فتقع عنايات في أقصى اليمين، وأروى في أقصى اليسار، وبينهما تكون دنيا التي تحاول أن تلملم مشاعرها، وتكتشف ذاتها بين هذه وتلك إلى أن تتحرر أخيرًا.

وهناك كذلك ابنة عنايات التي تمثل لدنيا ماضيها، وتمثل لها دنيا حاضرها. فمحاولات عنايات لحماية ابنتها من الختان تبوء كلها بالفشل عندما تستغل جدة الفتاة غياب ابنها عنتر وزوجته عنايات عن البيت، ولا تسمح لدنيا بدخوله حتى تنتهك حرمة جسد حفيدتها، وتحولها إلى دنيا جديدة مكتوب عليها أن تبدأ رحلة أخرى مع اكتشاف الذات والتعافي من صدمة الختان، وآثاره على النفس. وبمشهد إتمام ختان الفتاة تنهر دنيا الجدة قائلة: خلاص خليتيها زيك … إنت فاكرة إنك كدا بتحميها… إنت طفيتيها… هتخلي طبيخها يفضل بارد طول العمر حتى وهو ع النار… طبيخ ملح الدنيا كله مش هيحدقه.

وينتهي الفيلم أخيرًا ببلوغ دنيا حريتها الجسدية، والروحية في الوقت ذاته في اللحظة التي تدرك فيها أن روحها هي أساس اللذة وجوهر النشوة ودينامو الجسد، فلولا الروح المتحررة لما عبر الجسد عن نفسه مع إيقاعات الموسيقى، ولا صرخ عاليا بلا ضد كل قيود المجتمع. وفيه المشهد الأخير نرى دنيا ترقص باحترافية عالية، وتحرر أخيرًا معصمها من المنديل الأحمر، وتلقيه في الهواء ليطير بعيدًا عنها، وكأنه كناية عن تحررها من قيود المجتمع، وسمو روحها وارتقائها بعيدًا عن كل وصم وقيد.

أُنتج فيلم دنيا عام ٢٠٠٥، وهو للكاتبة والمخرجة اللبنانية الراحلة جولسين صعب، ومن بطولة: حنان ترك، محمد منير، سوسن بدر، عايدة رياض، فتحي عبد الوهاب.

إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني **

أضف تعليق