عندما تتمرد الورود وتقاوم الذبول قبل فوات الآوان | مراجعة فيلم أين عمري

١١ أغسطس ٢٠٢٣
رضوى حسني

من المعروف أن مسألة زواج القاصرات ليست بالقضية حديثة العهد في مجتمعاتنا الشرقية، وإنما هي عادة وربما تقليد متأصل في تراثنا حتى يومنا الحالي؛ رغم تعدد الجهود المبذولة أخيرًا لمناهضة هذا الشكل من العنف الممارس ضد الفتيات دون الثامنة عشر.

ويمكننا القول بأن فتيات العصر الحالي أمامهن فرصة الحصول على الكثير من التوعية والتمكين ضد الزواج المبكر سواء تم ذلك بجهود حكومية أو بغيرها لمنع معايشتهن لهذه التجربة البشعة؛ على عكس الفتيات في الماضي اللاتي لم يتعرفن على مدى بشاعة تلك التجربة إلا بعدما  تعرضن لها كحال عليَّة تلك التلميذة التي رغم أنها بعمر السادسة عشر عامًا وثلاثة أشهر وأربعة أيام، تتزوج من ولي أمرها عزيز بيه أو عمو عزيز كما تطلق عليه حتى بعد زواجها منه بأيام إلى أن يقنعها بصعوبة أن تناديه عزيز فقط بدون عمو.

لا يختلف حال عليَة كثيرا عمن هن في مثل عمرها، فدائما ما تحلم كل واحدة منهن بأن تكبر كفاية لتتمكن من ارتداء الفساتين الطويلة والكعب العالي وأن تصفف شعرها كنجمات السينما بدلًا من ربطه بالشرائط. وبينما هناك بعض العائلات التي تمنح بناتها تلك الحقوق البسيطة، تُسلب من عليّة كل هذه الحقوق وأكثر على يد والدتها سنية هانم سيدة المجتمع الأرستقراطي وابنة الذوات التي تحارب بكل السبل الفقر وزوال الأملاك من يدها والمقابل هو سنوات تضيع هباء من عمر ابنتها عليّة.

حيث توافق سنية هانم على إتمام صفقة بيع ابنتها الوحيدة لعزيز بيه – رغم علمها بحقيقة مرضه الذي يمنعه من الزواج – مقابل بعض الأملاك التي تضمن لها العيش في نفس المستوى الاجتماعي المرموق.

يبدأ فيلم “أين عمري” بمشهد إيقاظ عليّة التي تأخرت عن موعد ذهابها إلى المدرسة كعادتها في صباح كل يوم؛ رغم نومها المبكر. 

ومن تحليل ذلك المشهد ندرك جفاء العلاقة بين عليّة ووالدتها الأمر الذي قد يصل بالأم إلى حد القسوة على طفلتها الوحيدة، بينما نلاحظ على العكس  قوة الرابطة بين عليّة ومربيتها التي تحنو عليها وتفهم ما يدور بعقلها من مجرد نظرة أو همهمة تصدر عنها، وأخيرًا نتأكد من صغر عمر عليّة نفسها التي لا تقوى على تحمل مسؤولية ارتداء ملابسها بنفسها لتضطر في كل مرة أن تطلب المساعدة من الدادة.

ويمر السياق الدرامي للفيلم بثلاث مراحل رئيسية تعكس تطور شخصية عليّة من المراهقة إلى النضج مرورًا بمعايشتها لبعض المواقف الصعبة التي تَظهر بعد زواجها من عزيز، وتُظهر جوانب أعمق من شخصيتها.

فالمرحلة الأولى تعكس رغبة عليّة في تحقيق أحلامها البسيطة التي قد تصل في كثير من الأحيان إلى حد السذاجة كرغبتها في الغياب من المدرسة من أجل التحضير لحفل عيد ميلادها، أو ارتداء الفساتين كعارضات الأزياء اللاتي تملأ صورهن المجلات التي تتصفحها ليلًا قبل نومها؛ ولكن تبعًا لتعليمات والدتها الصارمة يُمنع عن عليّة كل سبل المتعة والترفيه حتى لو اقتصر الأمر على مجرد ذهابها إلى السينما مع صديقاتها في أيام العطلة، أو حتى قضاء أمسية لطيفة خارج المنزل بصحبة والدتها وصديق العائلة وولي أمرها .. عمو عزيز.

وفي كل مرة تحاول عليّة استمالة والدتها للموافقة على أمر ما، سرعان ما تتعرض للنهر لصغر سنها، كما تحاول سنية إقناعها بأنها لن تنل كل ما تتمناه إلا بعد زواجها؛ ولهذا  فالزواج في نظر عليّة ليس سوى بوابة  هروبها من تحكمات والدتها القاسية إلى عالم الحرية بغض النظر عن هوية الزوج المنتظر حتى ولو كان عمو عزيز الذي يكبرها بسنوات عدة، وترعرت هي على يديه.

فكيف ترفض عرضه بالزواج منها وهو من بات كالعصا السحرية التي تحقق بها أحلامها، وتلبي بواسطتها كل رغباتها حتى ولو كان ذلك على حساب قيود وتحكمات والدتها، فدائما ما ينصفها عمو عزيز ويقنع سنية بالنزول إلى رغبات ابنتها.

أما عزيز فهو رجل ثري مسن لا يصلح للزواج لكنه يرغب في امتلاك طفلة صغيرة ينجح في إغرائها بالملابس والمجوهرات، فتتغير شخصيتها بفضله بين ليلة وضحاها من مجرد فتاة حالمة إلى فتاة تعتقد أنها بلغت كل أحلامها بمجرد ارتداء خاتم الزواج في إصبعها.

ويتضح ذلك في أحد مشاهد الفيلم حيث تذهب علية إلى المدرسة لتدع زميلاتها إلى حفل زفافها بمنتهى التكبر والغرور لأنها في نظر نفسها تتفوق عليهن عمرًا وقدرًا بخطبتها قبل جميعهن، حتى أنها تقول لاحداهن: شدي حيلك يا شاطرة بكرة تتجوزي.

وتمر الأيام الأولى من الزواج في سعادة بين الزوجين رغم وضوح جوانب سلبية من شخصية عزيز كتحكماته في علية وغيرته عليها حتى من كلبها بوبي الذي رفض اصطحابه معهما إلى منزل الزوجية، ناهيك عن تسلطه ورغبته في امتلاكها وقلة ثقته بنفسه أمامها نتيجة لفارق السن بينهما، أما علية فلا تلاحظ كل ذلك لأنها ببساطة منشغلة في تمثيل دور سيدة البيت التي تحكم وتأمر حتى في أصغر الأمور وأتفهها. 

أما المرحلة الثانية، فهي أشبه بمرحلة انتقالية تعيش خلالها علية بعض المواقف الصعبة التي تجعلها تبصر العديد من الحقائق التي كانت تجهلها لصغر سنها ولفقدها للنصح في حياتها المبكرة.

وتبدأ تلك المرحلة بخوف عزيز المبالغ فيه على علية، وقراره بالانتقال والعيش معا في القرية بعيدا عن أجواء المدينة الصاخبة وأهلها حتى يخفيها عن الناس بقدر المستطاع، فعلى حد تعبيره هي بنظره جوهرة ثمينة يجب أن تتوارى بعيدا عن العيون.

وهناك تتعرف علية لأول مرة على شقيقتي عزيز العذرواتين لتنضم إليهما هي ويصبحن ثلاث. وبظهور الشقيقتين نتأكد أن التسلط الذكوري بطبعه لا يصدر فقط عن الزوج بل يمكن للأخ أيضا أن يحرم أختيه من كل مظاهر الحياة.

وتدرك علية أخيرا الوجه الحقيقي لعزيز عندما تقرر في أحد الأيام الخروج للتنزه وركوب الخيل دون إذنه، ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد؛ لكن تتعرض علية إلى حادث تقابل على إثره دكتور خالد الذي يعجب بها ويتقدم لخطبتها من عزيز ظنا منه أنها شقيقته.

ونتيجة لذلك يعنفها عزيز بالقول، ويمنعها من الخروج تمامًا من البيت حتى لا تلحق به العار. كما يضرب الفرس ويأمر بربطها.

وتأتي احدى العبارات على لسان الطبيب البيطري تعليقًا على وضع الفرس، فيقول: الفرس هتهرب أو هتدبل وتموت. 

وهنا جاءت هذه العبارة لترمز إلى وضع علية مع عزيز، فمصيرها محتوم إما بالتمرد أو بالموت.

ونظرا لغيرة شقيقة عزيز الكبرى من علية، تعرضها إلى احدى المكائد، وتتهمها زورًا بخيانة شقيقها مع الدكتور خالد.

وهنا يتحول عزيز لشخصية أكثر وحشية حيث يصل به الأمر إلى ضرب علية وجلدها، ليعود بعد معرفته للحقيقة ويطلب منها السماح، ويخبرها بأنها أغلى ممتلكاته، كما يحاول كسب رضاها من جديد بمنحها بعض الأملاك.

لتثور علية أخيرا رافضة أن تكون أغلى ممتلكاته كالفرس والأرض والتحف؛ لأنها ببساطة إنسان له كرامة وحقوق.

كما تخبره أنها مستعدة أن تتخلى عن كل ما وهبه لها مقابل أن تشتري نفسها بعدما حرمها من كل شئ حتى شبابها، وسنوات عمرها.

وفي احدى المرات القليلة التي تأتي والدتها لزيارتها بمناسبة عيد ميلادها، تفصح لها علية عن كل ما أصابها طوال سنوات زواجها حتى أنها أصبحت لا تتذكر عيد ميلادها، فبعدما كانت وردة في مقتبل عمرها صارت امرأة وحيدة ترثي حالها، وتبكي على ما ضاع من سنوات عمرها.

والمرحلة الأخيرة فهي مرحلة التمرد والهرب، حيث تقرر علية في النهاية أن تستنجد بدكتور خالد لمساعدتها على الهرب من بيت عزيز حتى تعود إلى حياتها السابقة قبل زواجها منه؛ لكنه يخذلها خوفا عليها من اتهام عزيز الباطل لها، ومن نظرة المجتمع لهما، فكيف يساعدها وهي التي تستغيث من زوجها بذهابها إلى بيت رجل غريب لطلب يد العون منه. حيث يرى دكتور خالد أن التقاليد والأوضاع تساند الرجل ضد زوجته حتى ولو كان مخطئا؛ لتستنكر علية رفضه مساعدتها وتخبره بأنها لن تنتظر مساعدة منه أو من أحد غيره بل ستساعد هي نفسها بنفسها ولن تعود إلى سجن عزيز مرة أخرى؛ لأنها إن عادت له فحتما سينتهي بهما الأمر بقتل أحدهما الآخر.

وتتصاعد أحداث الفيلم وتدور لصالح علية. فتتمكن بعد معاناة من استعادة حياتها السابقة ولكن بشخصية أكثر تمردا وتطرفا.  فرغم سنوات زواجها الماضية إلا أنها تقرر أن تعود إلى عمر السادسة عشرة عاما لكي تعوض كل ما فاتها.

حتى أنها تتصرف بتهور واندفاع، وبشكل غير محسوب. فلا تبالي لنظرات الناس ولا لوضعها الاجتماعي كأرملة شابة لم يمض سوى شهور قليلة على وفاة زوجها. فتخرج برفقة الشباب، وتتصرف كمراهقة صغيرة.

وعندما تنهاها والدتها عما تفعله، تعارضها علية بشكل صريح لأول مرة، وتواجهها بكل ما تكنه لها من مشاعر سلبية لأنها السبب الأساسي فيما حدث، ولما تحاول سنية أن تبرأ نفسها، وتشرك ابنتها فيما وصلت إليه بموافقتها على الزواج من عزيز. ترد علية بقوة، وتقول: أنا كان نفسي في جزمة عالية وفستان، وإنت كان نفسك في أرض وأملاك.. بعتيني لراجل عجوز وكنتي عارفة إنه عيان.

وتأتي أحد مشاهد الفيلم للتعبير عن حالة التمرد التي تعيشها علية، فبمجرد عودتها للبيت تذهب فورا إلى الحديقة، وتفك الحبل عن كلبها بوبي الذي كان مربوطا في مكانه طيلة سنوات زوجها كما ربطها عزيز بخاتم الزواج.

وتستمر الأحداث في التصاعد حتى تتعرض علية إلى حادثة بسبب تهورها وتمردها المندفع كادت على إثرها أن تواجه عمو عزيز جديد،  وأن تتعرض للاغتصاب إلا أنها تُنقذ في اللحظة الأخيرة. تلك اللحظة التي تدرك فيها أن العمر لم يفتها بعد، وأن القطار الذي يمضي من حياتنا يتبعه قطار آخر ينتظرنا في نفس المحطة، كما تعي لحقيقة أن التجربة الصعبة التي عاشتها قد لا تمحوها الأيام؛ ولكنها من المؤكد لن تبق مستسلمة لها، وتعيش كضحية للأبد، وعليها أن تتعافى؛ لأنها بتصرفاتها تلك تفرط في نفسها كما فرطت فيها والدتها وكما فرط فيها عزيز. فربما الماضي لم يكن باختيارها؛ لكن الحاضر ملك يديها، والمستقبل في انتظارها.

عُرض فيلم أين عمري لأول مرة في عام ١٩٥٦، وهو مأخوذ عن رواية الأديب الكبير إحسان عبد القدوس، وقام ببطولته كل من: ماجدة ، أمينة رزق ، زكي رستم، يحيى شاهين، أحمد رمزي ، فردوس محمد. ومن إنتاج ماجدة، وإخراج أحمد ضياء الدين.

أضف تعليق