مجاهدي الإنترنت و أحدث صيحات الذكورية 

٢٧ سبتمبر ٢٠٢٣
سلمي محمود

رجل يتنكر في هيئة إلكترونية لسيدة وهمية، اسم مستعار أنثوي، صورة سيدة رشيقة شديدة الجمال تمت سرقتها من أحد مواقع الصور المجانية و ‘بروفايل’ إما أغلقت أسواره وكتب على لافتة الدخول ‘ممنوع الاقتراب’ أو امتلأت أركانه بالعديد من المنشورات الأنثوية ‘الوهمية’… حتى تكتمل الخدعة الرقمية المستعارة شديدة الذكاء النمطي…

يتسلل الرجل حاملاً معه هويته الأنثوية ويزحف تجاه المجموعات النسائية، يشارك، يقرأ بتمعن كل صغيرة وكبيرة، يترك التعليقات الناعمة هنا وهناك حتى لا تشك إحداهن في أمره وبالطبع يصادق النساء ويحاول اقتحام خفاياهن شديدة الغموض والسرية، يعيد الكرّة كل ساعة وعندما يمل يخرج مصطحباً رفقته عدة غنائم أنثوية يعلم جيداً مصيرها وما يمكنه أن يفعل بها…

تتراوح الخيارات ما بين إرسال تلك “الغنائم” إلى أفراد العائلة لمتابعة ما تقوله فتاتهم المصونة خلف ظهورهم، أو ربما محاولة ابتزاز إحداهن تحقيقا لغرض ما في نفس يعقوب، أو ربما خطة “الفضيحة المتكاملة” والتي يقوم بتطبيقها عن طريق نشر كل تلك الغنائم “أونلاين” حتى يشاهد الآخرين قهراً كيف أن النساء خلعن برقع الحياء لا سمح الله، كل هذا أملاً في حصد ميداليات المراكز الأولى في مسابقة الخسة والنذالة وإثبات الرجولة الكاذبة… الخيارات كثيرة وهو بالطبع الفائز الوحيد في تلك المعركة!

هذا ليس مشهداً عابراً يحدث مرة في العمر أو قضية شاذة تحتل عناوين الصحف لغرابتها وندرتها إنما أحدث صيحات الذكورية المغلفة بالسلطة الأبوية التي يتخذها الكثير من حولنا كأسلوب حياة يومي، لا أرغب في منحهم لقباً معيناً أو صفة، أو لنقل “مجاهدي الإنترنت” الذين ينصبون أنفسهم كأوصياء على كل من تحمل لقب أنثى، يحاكموهن دون وجه حق، يتفننون في تضييق الخناق عليهن وتكدير صفو حياتهن وعقابهن بمختلف الطرق الدنيئة وكأنهم حراس الفضيلة أو رعاة الأخلاق والشرف!

الأمر لا يقتصر على محاولة اقتحام المساحات الأنثوية الخاصة وحسب، بل اقتحام كل ما يؤول إلى حياة الإناث بشكل عام، ملابسهن، نظراتهن، همساتهن، مع مَن يجب أن يتحدثن أو من يجب عليهن تجاهله، ما الذي يجب أن تتفوه به ألسنتهن وما يجب أن يبقى بداخل صدورهن حتى تحرقهن نيران كتمانه، ما هي الموضوعات المسموح لهن بمناقشتها وما المحظور عليهن حتى ذكر طيفه، كيف تبدو ملابسهن؟ هل تبدو محتشمة بشكل كافٍ طبقاً لنظرة سيادته، هل حجابهن يصنف كحجاب، هل طريقة تصرفهن على السوشيال ميديا تبدو لائقة طبقا لتصنيفهن ك “نساء”، هل حياؤهن يعنون كل تصرف يصدر منهن، هل وهل وهل …

كل ذلك يقع تحت طائلة حكم أوصياء الفضيلة، هم وحدهم مَن يضعون القواعد، وهم من يحددون طريقة كل شيء طبقاً لسياستهم وقوانينهم، ليس لديكِ حق الاعتراض أو حتى المناقشة حتى لا تقعي ضحية للجزء الأخر من القواعد، الصفحة الأخرى المسماة ب “العقاب”، العقاب الذي لن يكون رحيماً بك أو بفعلتك، جيوش كاملة العدد والعدة ستقوم بافتراس حياتك وسمعتك وشرفك دون شفقة أو رحمة، تلقي بكِ إلى قفص الاتهام لتنفذي حكم الإعدام حية دون حتى أمنية أخيرة قبل الرحيل…

مَن هم؟ المؤسف أنك لن تعرفي من هم، فقد يكونون أي شخص دون مبالغة، بداية من القريب الذي يبدي تعليقاته شديدة السخافة عن ملابسك في الزيارات العائلية، أو صديق العمل الذي ينصب نفسه “حارس الفضيلة” ويفرض عليك أرائه بصورة فجة، أيضا هناك حارس العقار الذي قد يسمح لنفسه بتجاوز حدوده الخاصة ويحاول فرض نصائحه عليك بشأن مواعيد عودتك إلى المنزل بحجة “إن الناس هتتكلم وحش عنك”، هذا غير رفيق المترو الذي يصب عليك نصائحه الدينية عن حكم خروج المرأة للعمل، وحتى هذا الغريب إلكترونياً الذي قد يقوم بإعادة توجيه آرائك إلى أفراد العائلة مع وصلة من السب واللعن لك ولعائلتك لا لشيء سوى لفرض الوصاية وحماية الفضيلة الوهمية…

قد تستيقظين يوماً لتجدين نفسك عاطلة عن العمل لأن أحد زملائك الذكور قرر مشاركة دعابة “غير لائقة من وجهة نظره” قمت بنشرها في سن الثانية عشرة على حسابك على فيس بوك ويبدو أنها لم تعجب أرباب العمل، أو تجدين ثيابك ملطخة بمحلول لا تعرفين ماهيته بعد مناقشة حادة مع أحد ركاب المترو انتقد فيها ملابسك، أو تجدين نفسك فريسة للذباب الإلكتروني على الإنترنت بعد مشاركة رأي لم ينل إعجاب أحد الذكور على صفحات التواصل الاجتماعي ليقرر بعدها التنكيل بك وجعلك لقمة سائغة لكل من “هب ودب”، أو قد تخسرين حتى حياتك/ عملك/ سمعتك/ حريتك بسبب “هزار بسيط” في إحدى المجموعات النسائية “الخاصة”… نعم الأمر قد يصل إلى ذلك فعلاً…

الأمر أصبح يزداد سوء يوماً تلو الآخر، تعليقات تشجع على العنف والإيذاء تجاه النساء في كل ركن من أركان صفحات التواصل الاجتماعي، نظرات وابتسامات التشفى على كل موقف لا تحقق فيه النساء انتصاراً واضحاً، تبريرات العنف والقسوة بل وضخ شلالات التعاطف والتبرير تجاه المعتدين والمجرمين، المبادرة بالإيذاء وتكدير صفو حياتهن “إلكترونياً” عن طريق التعليقات الخارجة والمسيئة التي تحاصرهن أينما ذهبوا، أو الهاشتاجات التي تحمل وسوم كريهة أو سبة قليلة الحياء تجذب ملايين من الذباب الإلكتروني للمشاركة، أو حتى اقتطاع التعليقات “الخاصة” من سياقها وإرسالها إلى أفراد العائلة أو أصحاب العمل وتعريض حياتهن ومسيرتهن المهنية للخطر، وما يزيد الطين بلّة هو التسلح بدرع القيم والفضيلة وتحقيق شرع الله حتى وإن كان ما يفعلونه أبعد ما يكون ذلك، بل ولا يقومون بتطبيقه على أنفسهم من الأساس، كل ذلك بهدف محاولة فرض سياج السيطرة المطلقة أو تضييق الخناق على كل من تحمل لقب أنثى!

المؤسف حقا أنني لا أفهم من أين يأتي هؤلاء بهذا الكره المطلق والرغبة المتزايدة في الأذى، ففي مجتمعنا تربي النساء وتحتضن الأخوات وتشقى الزوجات وتهنن البنات، إذا لماذا يحمل هؤلاء الذكور تلك الكرة الثلجية المتزايدة من الأذى تجاه النساء، هل يولدون وهم يحملون في قلوبهم تلك الكراهية؟ أم كونهم تربوا منذ الصغر على احتقار النساء ومعاملتهن وكأنهن فرز ثاني أو كائنات غير صالحة للعيش أو التفكير المطلق، كل قرار يتخذنه يجب أن يصدر بالرجوع إلى “ذكر”، كل فعل يقمن به يجب أن يكون مُغلفًا بموافقة “الذكر”، إن حِدن عن روشتة الأحكام الذكورية أو القيود المجتمعية الشرقية فالعقاب هنا هو مرض النبذ والإهانة غير الرحيمة، أم لكونهم كبروا وهم يحملون داخل طيّات عقولهم أن اليد العليّا لهم وحدهم، فهم خلفاء الحاكم في الأرض ورُعاه الفضيلة والأخلاق يجب أن يطبقون شروط الطاعة والولاء ولكن للنساء وحدهن، أما هم فالشروط والأحكام لا تُطبق عليهم ولا تشملهم بأي شكل، أسد عليّ وفي الحروب نعامة!

ربما أيضاً لأن بعضهم يستمد ذكورته من قدر الكراهية وحُب فرض السيطرة التي يحملها بداخل قلبه تجاه النساء، نعم فهذا هو سبيلهم الوحيد لإثبات أحقيتهم في حمل لقب “ذكر” في مجتمع يشجع دائماً سلوكيات العنف والإيذاء وكل فعل سيء تجاه النساء، يُغرق تلك النوعية من الذكور بأوصاف “الرجولة والقوة” لا لشيء سوى لكونه ذكر مُتسلط، قاس، لا يحمل في قلبه سوى كل ضغينة وكراهية تجاه النساء، أما العكس فشلالات الدياثة والأوصاف سيئة الوصف والمعنى في انتظاره رفقة كل موقف يُظهر فيه إنسانيته واحترامه للنساء من حوله…

المؤسف أن هذا لن ينتهي قريباً، فكيف ينتهي أي شيء يحظى بمباركة المجتمع والناس في كل ركن، كيف يُمكننا تغيير النظرة المتوارثة عبر أجيال صُنعت في القدم لكن ما زالت عدواها تُحاصرنا حتى يومنا هذا، عدوى بدأت من أقدم الأجداد وانتشرت عبر الآباء وها هي اليوم تتفشى خلال الأجيال الجديدة الحالية والقادمة إلى ما لا نهاية … مصل المرض؟ صعب ويحتاج إلى الاستيراد من مكان أخر بعيد حيث يحترم الذكور النساء، لا يتتبعون خطواتهن، لا يضيقون الخناق عليهن، لا يتفننون في اختراع طرق جديدة للإيذاء والعنف، لا يحملون كل تلك الضغينة والكراهية بداخل قلوبهم تجاه إناث لا يعرفون عنهن الكثير … ترى هل يتم استيراد هذا المصل قريباً أم يتفشى المرض أكثر وأكثر؟

إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني **

أضف تعليق