عزيزتي لا تكوني مختلفة!

٩ أكتوبر ٢٠٢٢
كتبت: سلمى محمود

مَن منا مازال يُحب الحياة العادية أو «الطبيعة» اليوم، بالتأكيد ليس انا ولا أنتِ!، ففي يومنا هذا صارت الحياة السريعة التي تغلفها بهارات المتعة وتوابل المخاطرة هي القاعدة بينما الحياة التي يُمكن وصفها “بالطبيعية” أصبحت الاستثناء.

صارت آفة زمننا هي الرغبة في الاختلاف، كل شيء طبيعي صار مُغلفًا بغلاف «المبالغة»، اللحظات الخاصة صارت المقاطع الأكثر شهرة على الإنترنت، الأيام الروتينية الهادئة صارت المنتج الأكثر رواجًا على يوتيوب، النصائح الذهبية أصبحت تنمية بشرية، أما الكتابات التي كنا نحتفظ بها بعيدًا عن أعين الجميع صارت الكتب الأكثر مبيعًا، حتى اللحظات المحرجة والمشاعر الصادقة، الأحاديث الشاعرية الخاصة ولحظات العائلة المقدسة أصبحت أيضًا على رأس قائمة الأساليب التي يجذبون بها أعيننا من أجل زيادة المشاهدات والمتابعين!، كره الناس «الوضع الطبيعي» ولم يعد يُثير الإعجاب والانبهار بل أصبح أقل من اللازم ولابد على الأخر بذل مجهود مضاعف في إثبات تفوقه في الاختلاف عن الجميع ليُثير إعجابك أو يجد موضع قدم له في هذا العالم «المختلف».

حتى المواهب صارت مختلفة تلك اليوم، كنت أعلم قديمًا إن الموهبة في أي مجال هي السبيل الوحيد لتحقيق الشهرة والمجد خاصة إن كان الحظ بجانبك بالطبع، لكن في يومنا هذا الكل أصبح يريد الشهرة والمجد حتى وإن امتلك من الموهبة حطامها أو لم يمتلك منها شيئًا قط، كل ما عليك هو امتلاك كاميرا صغيرة ومكان مناسب للتصوير وأي محتوى لائق أو غير لائق، مفيد أو مثير للجدل.. الجميع أصبح يقلد بدون وعي فكل شيء طالما يؤدي إلى الشهرة وكسب الأموال هو متاح ومباح!

كنت أتحدث رفقة مجموعة الفتيات الصغيرات وطرحت على إحداهن سؤالاً وهو «ما الذي تسعين إلى تحقيقه في المستقبل» قالت «أريد أن أصبح «مشهورة»!… قلت نعم!!! أهذا طموحك؟ لا تريدين أن تصبحي طبيبة، معلمة أو كاتبة أو غير ذلك، لماذا؟؟ قالت «أريد تحقيق الشهرة والمال بأقل جهد!» فركت أذني من هول حديثها وتساءلت هل أصبح الأمر بتلك السهولة؟ وإن كان كذلك لماذا يفني البعض حياته في العمل ليلاً ونهاراً ليحصد في النهاية فتات الأموال؟

تساءلت حينها عن المقابل، لكنها لم تفهم فالمقابل الوحيد الذي تعرفه هو المال والشهرة ولكن ما الذي ستخسره من جراء اللهث وراء الحلم الزائف فلن تعرف ابدًا..

الكثير من المراهقات وقعن في فخ اللهث وراء الشهرة “وحب الاختلاف” منذ تلك اللحظة التي حملت كفوفهن الصغيرة الهواتف الجوالة، منهن من أهملت دراستها وألقت بطموحها في أقرب سلة مهملات من جراء قضاء آلاف الساعات في مشاهدة الفيديوهات ومن ثم تقليدها، وصار كل شغلها الشاغل هو البحث عن أقصر الطرق لتحقيق المكاسب مهما كلفها الأمر، تترك الكتاب المدرسي لتصور فيديو عن نصائح لزيادة المعدل الدراسي، تضرب بكلام والديها عرض الحائط لتصور فيديو عن احترام الوالدين، ترقص وتهلل وترتدي الملابس الكاشفة وتضع الكثير من مساحيق التجميل  وتتناقل المقاطع غير المناسبة لسنها هنا وهناك ثم تعود لترتدي الوجه الأخر في جلسات العائلة، هكذا أصبحت حياتهن بعيدة كل البعد عن ما يُفترض أن تحظى به مراهقة صغيرة مثلهن.

أعرف الكثيرات أيضًا اللواتي صارت حيواتهنِ مشاعًا على الإنترنت، الجميع أصبح يعرف تفاصيلهن الخاصة متى يستيقظن، ماذا يرتدين، كم عدد أفراد الأسرة، وما هو عمل الوالد والوالدة وكم يقبضن أيضًا، كل جزء من يومهن وكل معلومة تخصهن مهما بلغت شدة خصوصيتها صارت مشهدًا على الإنترنت يحاولن لفت الانتباه من خلاله وجلب المشاهدات حتى وإن كلفهن هذا خصوصيتهن وخصوصية الأسرة وأحيانًا أمانهن وأمان العائلة برُمتها!

صرن مجرد نُسخ مُصغرة ممَن يقمن بمتابعتهن عبر الشاشة الصغيرة، أصبحت أحلامهن نسخة طبق الأصل منهن، يقمن باختيار ملابسهن بعناية ليس طبقًا لذوقهن ولكن طبقًا لذوق البلوجر المفضلة لهن، يقعن في غرام القراءة لأن فلانة تحب القراءة ويتركنها لأن فلانة قالت لها أن مشاهدة القليل خير من قراءة الكثير، يحلمن بحفل زفاف ضخم يحضره أشهر المطربين ويتناقل الجميع مقاطعه الحميمية مُرفقة بعبارات وقصائد عن الحب الحقيقي والسند وتلك العبارات التي صارت تتكرر كل يوم حتى فقدت معناها، فهذا هو الزفاف المثالي أما ما دون ذلك فليذهب للجحيم، يقلدن نمط حياة تلك ويحاولن مجاراة الأخرى، يستخدمن المنتج الفلاني لأن فلانة قالت إنه الأفضل ويقدن حملات مضادة ضد منتج أخر لأنها ذمت به وفي فعاليته، يُقلدن طريقة كلامهن، مقاطعهن، وإن كن يمتلكن القرار لبدلن أسرهن ليحظين بنفس العائلة، حتى طموحهن الشخصي أصبح مُستمد منهن ومن تفكيرهن وكأنهن مُبرمجات أو يتم تحريكهن كعرائس الماريونيت!، فقدن أنفسهن وحياتهن «الطبيعية» التي يُفترض أن يحظين بها في تلك المرحلة، مشاعرهن البريئة، لحظاتهن الخاصة، خيالهن الخصب وحتى علاقاتهن بأسرهن.

هل هناك مشكلة؟ نعم هناك مشكلة كبيرة ربما يغفل عنها الكثير وهي أن الأمر لم يعد مجرد تقليد أعمى أو حب الظهور والشهرة أو مشاغبات مراهقة، إنما صار البعض يريد المزيد من الشهرة بأقصر طريقة وأعلى ربح، كلما اجتزن مرحلة أصبحن يريدن المزيد والمزيد، ماذا حدث؟ الخسائر لم تعد معنوية إنما هناك مَن وقعن في فخ الابتزاز والوعود الكاذبة بجعلهن نجمات يمتلكن الألاف المتابعين وخسرن الكثير بل أنفسهن ودخلن في دوامة من المصائب والمشاكل، هذا ما حدث ومازال يحدث.

أخيرًا السوشيال ميديا وحب الظهور سلاح ذو حدين، لا أتحدث أن كل المحتوى سيء أو مُثير للقلق، فهناك نماذج إيجابية كثيرة استفدنا منها أفضل استفادة، حققت إنجازات “حقيقية” وساعدت الكثيرات بمحتواها أيًّا كانت طبيعته وفي نفس الوقت لم تخسر في المقابل ما لا يمكنها تعويضه، وهنا محور الحديث حتى الإيجابيات بالخسائر والتقليد الأعمى تُصبح سلبيات، فلا تقلدن دون فهم، لا تُلقن بأنفسكن في طريق لا تعرفن نهايته، لا تخسرن أنفسكن ولا أي شيء “ثمين” في تلك الرحلة، تعلمن حتى يصبح لمحتواكن قيمة، ولا تصدقن كل ما تشاهدن أمامكن على الإنترنت… فليس كل ما يلمع ذهبًا، واعلمى يا صديقتي إنه لا ضير من أن تصبحي “عادية” فالاختلاف ليس موضة عليك اتباعها بأي شكل ولكنها قد تصبح آفة إن تمت “بشكل خاطئ” تُدمر حياتك بأكملها..

**إذا أعجبتك هذه المقالة، اشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني

أضف تعليق