أستمتع بحياتي العادية، الروتينية والمملة للبعض ولا أبالي بما يفعل الجميع!| سلمى محمود

٦ يناير ٢٠٢٣
سلمي محمود

في تمام الساعة السادسة صباحًا أفقت من غفوتي التي لم تدم طويلاً بعد أن قضيت ليلتي السابقة قابعة في ظلمات الليل مشوشة التفكير، استيقظت بنصف عين مفتوحة وبوجه مشوشًا يغمره الضباب، كنت على أهبة الاستعداد لبدء أول يوم دراسي، ارتديت زيي المدرسي، أحكمت قبضتي على حجابي وتجرعت كوب اللبن الدافئ، فككت رباط حذائي وربطته، واستقللت الحافلة وتوجهت صوب المدرسة التي كنت أحلم أن تنتهي أيامها قبل أن تبدأ.

وصلت للمدرسة وانا أفكر في شكلي المُنمق ولكن ما أن خطت قدماي بوابة المدرسة حتى وجدت العديد من النسخ المتشابهة التي ترتدي الزي نفسه وتلف حجابها بنفس الطريقة حتى الحذاء كان هو ذاته، يبدو إننا مررنا بنفس الدكاكين في طريقنا للمدرسة.. دهشت حد الذهول ولكن ما آثار ذهولي أكثر هو وجود بعض الشخصيات المميزة التي أضفت بعض التعديلات على مظهرها من أجل إطلالة أكثر أناقة، ربما اختيار نوع حجاب مختلف أو قماش أكثر لمعانًا أو ربما إضافة بعض الإكسسوارات الذهبية التي أعطت للمظهر العام شكلاً فخمًا.. حينها فهمت القصة قدري هو التشابه وأن أحظى بحياة عادية بينما قدرهم هو الاختلاف والتميز!

لم أكن متفوقة بالقدر الكافي أو (نيرد) كما يقولون لتُزين أردافي الصف الأول، ولم أكن من هواه إثارة الشغب أو كما يقولون الأكثر شهرة في الصف والذين يحجزون أماكنهم في الصف الأخير، لكنني كُنت أجلس في الصفوف الوسطى متمنية أن تلتهم عقارب الساعة الساعات التهامًا، لم امتلك موهبة متميزة لأشارك في المسابقات ولم أحظى بصفات قيادية أو ثورية تُمكنني من اعتلاء منصات الاتحادات الطلابية، كانت صُحبتي قليلة وحديثي أقل، لم أكن بشهرة طلاب الصف الأول ولا عبث الصف الأخير، لم يحتفظ المدرسين بأسمى ولا ملامح وجهي في خبايا ذاكرتهم، لم أثير الشغب ولم أبهر الجميع بذكائي… لكنني كنت مجرد فتاة عادية!

كنت عادية.. هذاماأوشكت أطراف أصابعي على ملامسة حقيقته والتعايش معه

عدت إلى سريري بعد يوم شاق، خضت به الكثير من الصراعات الخيالية داخل عقلي، ذهبت في نوم عميق وكأنني دخلت في غيبوبة طويلة الأمد، أفقت بعد ذلك على صراخ أمي وهي تنطق أسمي بدون توقف كيلا أتأخر على أولى محاضراتي بالجامعة، كان ذلك اليوم يُفترض أن يكون “مميزًا” للغاية، أخيرًا سيُسمح لي بارتداء الملابس الجديدة ووضع مساحيق التجميل.. اليوم فقط سأصبح مميزة!

أفقت من أحلامي الوردية عندما شاهدت نفس الفتيات “المميزات” اقتنصن صك التميز منذ البداية ربما بأزيائهن المميزة أو لكونهن اجتماعيات بشكل جعل صيتهن يذيع صداه، ربما لكثرة المغامرات التي قُمن بخوضها، أو علاقات الصداقة التي يمتلكنها أو حتى تجارب الحب الشيقة التي مررن بها، ربما أيضًا لاعتلائهن منصات التفوق الدراسي أو لكونهن الأكثر حماسًا وثورية أو شغبًا وعنفوانًا وجمالاً.

كان ما يربط بينهن جميعًا هو امتلاكهن ميزة صارخة جعلتهن بالفعل مميزات، أما انا فكنت نفس الفتاة العادية التي تذهب للجامعة حاملة هموم الدنيا فوق رأسها، أهتم بالامتحانات جل اهتمام وأتناسى ذروة حياة الشباب وعنفوانه، يبدأ العالم في التأرجح من حولي وانا لا يهتز بي شعرة، لم أحظى بمغامرات مميزة أو  حتى ذكريات عابرة، لا صداقات وطيدة ولا علاقات حب ملتهبة، لم أحتل المراكز الأولى ولم أقضِ سنوات أكثر من العادي بالجامعة، لم أكن تلك التي يغبطها  الجميع لمزاياها ولا حتى الأكثر كراهية التي يبتعد الجميع عنها فور رؤيتها .. كنت عادية لا أكثر ولا أقل!

دخلت ذروة الحياة العملية ولم يحدث جديدًا، كنت مثال للشخص الذي يقضي الساعات أمام جهاز الكمبيوتر يلتهم العمل التهامًا وفي نهاية اليوم لا يحظى بكلمة شُكر بالية، بينما الأخرين من حولي يعبثون هنا وهناك، يطلقون الضحكات ويكونون الصدقات، يعملون ولكن بذكاء كنت أحسدهم عليه، ذكاء يجعل كل التقدير والاحتفاء يذهب مباشرة إلى سلتهم حتى وإن كانوا يعملون أقل أو بجودة ليست بالقدر المطلوب ولكنهم كانوا مميزين، كل شيء يفعلونه يؤتي بثماره معهم، لم أفهم السبب، هل كًتب على رأسي إنني عادية بهذا الشكل؟

“بقيت طيلة حياتي اتبع نفس النهج، يغمرني شعور بالتميز ثم ترتطم رأسي بشدة بعد اصطدامها بالواقع المرير”

أصبحت اعتاد العادي حتى أصبح يشغل كل تفصيلة من حياتي، ملابسي لا تتبع الموضة لكنها فقط تمنحني الراحة، هواياتي هي ذاتها منذ اليوم الأول أحب مشاهدة كرة القدم والمسلسلات الدرامية ومطالعة القصص القصيرة، لا أفضل الصخب وقضاء معظم أوقاتي أتجول هنا وهناك، ولكنني عوضًا عن ذلك ارتمي في أحضان وسادتي طيلة اليوم، لا أمتلك قصص من تلك التي يغبطها الجميع من شِدة حماسها إنما مجرد قصص روتينية مملة يحفظ تفاصيلها الجميع من قبل حتى أن أقصها عليهم، لا يُمكنك أن تُحدد علامة واحدة مميزة تُميزني عن غيري، أعمل في وظيفة روتينية يتخللها بعض المتعة أحيانًا ويغزو الملل أوقاتها كثيرًا.

“هكذا وُضعت في خانة العادي منذ نعومة أظفاري ويبدو أن القصة لن تُكتب نهايتها يومًا”

 ربما في البداية كنت استشيط غضبًا كلما وجدت كلمة عادية قد خُتمت على جبيني ولكن الأن لم يعد الأمر هكذا، ربما بالفعل حياتي عادية، روتينية و مملة للبعض ولكنها بالنسبة لي تُريحيني وتغرز خنجر السعادة في قلبي، ربما اشتهيت نسمات الشهرة والتميز وهي التي لم تزورني قط في أحلامي فقط لأن الجميع كان يتغنى بها، وبقيت أبحث عن التميز في كل خطوة تخطوها قدماي حتى نسيت هدف الحياة وهو السعادة، نسيت إنه لا يهم إن كانت تجربتي أقل إثارة الأهم إنها تمنحني السعادة، فوجود ركن ناقص لا يُمحي التجربة بُرمتها إنما ربما يُضفي عليها عُنصرًا فريدًا من نوعه يجعلها مُثيرة بشكل “مُختلف” حتى وإن كان الاختلاف لا يُثير سواك..

لن افتتح مشروعي الخاص لأن الجميع يفعل هذا وانا غير مؤهلة لذلك، ولن ألبس الألوان الصارخة لأنها على الموضة حتى وإن كانت تتعارض مع ذوقي الشخصي، سأحب دومًا أريكتي المفضلة التي تمنحني وسام “العادي”، وسأحتضن وسادتي وأنا أشاهد مسلسلي المفضل للمرة الألف في سعادة، لن أصبح عارضة أزياء أو “مؤثرة” شهيرة لكنني سأحاول أن أؤدي عملي بكفاءة حتى وإن لم تلمس أطرافي سلالم التميز قط، ساُظل دومًا أحب المصايف التقليدية والوجهات التي زرتها عشرات المرات حتى حفظت قدماي خطواتها، وظيفتي التقليدية، أفلامي المفضلة، وحتى ملابسي التي تمنحني الراحة والأمان، فالأهم هو أن أشعر بالسعادة وليس أن أمشي على خطى الجميع!

حتى في المستقبل سأفضل قضاء الوقت رفقة زوجي نُشاهد نفس الفيلم معًا وكأننا نفعل هذا لأول مرة، سنُسجل لحظاتنا الدافئة على شرائط قديمة لنستمتع بها رفقة الأهل والأحباب، سنُسافر إلى وجهات نُفضلها ونحلم بها وليس لأنها “ترند” يتباهى الجميع بختم جواز سفره بخِتمها حتى وإن لم تُصيبهم نسمات السعادة بداخلها، سنستمتع رفقة أطفالنا بحفلات عيد الميلاد البسيطة، والنجاحات الصغيرة ونزهات الحدائق والملاهي وأماكن ركوب الدراجات.. سنستمتع بحياتنا العادية تلك ولن نُبالي بما يفعل الجميع!

إذا أعجبتك هذه المقالة، أشترك في المجلة لتصلك مقالاتنا في بريدك الالكتروني **

أضف تعليق